الخميس 25/أبريل/2024

مراجعة لكتاب الحياة مفاوضات

د. عبد الستار قاسم

صدر مؤخرا عن عمادة البحث العلمي/جامعة النجاح الوطنية كتاب للدكتور صائب عريقات بعنوان الحياة مفاوضات. وقد رافقت الإصدار حملة إعلامية كبيرة خاصة بعلمية الكتاب ومهنيته وبتحكيمه من قبل علماء. وقد صدّر الأستاذ الدكتور رامي الحمد الله، رئيس جامعة النجاح للكتاب قائلا بأنه: “إن قيمة هذا الكتاب جعلتني مهتما بتولي طباعته ونشره ليكون بين أيدي القراء والمفكرين، لأنه – بحق – يعتبر أرضية متينة غنية وقوية للدارسين، ولا أبالغ إذا قلت: إنه من أهم الكتب السياسية في وقتنا الحاضر.”

قرأت الكتاب، ووجدته يخوض حديثا في ثلاث مجالات رئيسية وهي: الفلسفة السياسية الخاصة بالمفاوضات، منهجية التفاوض، والأمور الفنية الخاصة بعملية التفاوض. الكتاب لا يتحدث بمجمله عن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مباشرة، وإنما يتناول مسألة المفاوضات بصورة عامة كنشاط شبه يومي للإنسان سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول؛ لكن القارئ لا يخيب تقديره إذا ظن بأن الكتاب معني بصورة أساسية بعملية المفاوضات الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ زمن بعيد، والتي يشكل الدكتور صائب أحد أقطابها عن الجانب الفلسطيني.

دونت الكثير من ملاحظات حول الكتاب بترتيبه ومنهجيته وأفكاره، وسأطرحها في هذه المراجعة بقدر كبير من الاختصار. إنما أشير أو إلى أن الفائدة الموجودة في الكتاب تتركز بصورة كبيرة في الأمور الفنية الخاصة بالأداء التفاوضي مثل الحرص على مظهر معين، والتمتع بلباقة الحديث، والقدرة على فهم الطرف الآخر، وقراءة المشاعر وما خلف الكلمات، الخ. لكن هذا الأمر لا يخلو من قضايا أرى أن الكاتب قد أثقلها وأخرجها عن سياق الحذاقة في التفاوض، وسآتي على ذكر بعضها لاحق.

عنوان الكتاب

عنوان الكتاب الحياة  مفاوضات حدي بصورة قاسية، وهو لا يقسو على الإنسان فقط وإنما على مفهوم الحياة عموما. لا شك بأن المفاوضات لا تغيب عن الحياة اليومية للإنسان والشعوب، لكنه ليس من الحكمة أو الإنصاف أو العدل أن نختصر الحياة بأنها مفاوضات. أغلب نشاطات الإنسان ليست مفاوضات، وهي تندرج تحت عناوين كثيرة لا نكاد نحصرها. الإنسان يخطط مثلا لمستقبله، ويبذل جهودا في مزرعته أو متجره، ويعمل على تنمية قدرات أبنائه، ويقرر حول طعامه وقيامه وترحاله، الخ دون أن يحتاج طرفا آخر للتجاذب معه أو ليفاوضه.

العنوان عنيف لأنه يقيد الحياة بصورة تعسفية بحيث يمكن تفسيره على أنه إسقاط لتجربة شخصية قد لا يكون الكاتب مرتاحا لها على الآخرين. ربما هو إعذار من خلال التأكيد المفرط على صحة المسار التفاوضي الذي سار به الدكتور صائب. كان من الممكن صياغة عنوان مختلف يؤكد على أهمية المفاوضات بدل تأكيد سطوتها على نواحي الحياة المختلفة.

النواحي الفنية في الكتابة

هناك عدد من النواحي الفنية الكتابية التي كان من المفروض أخذها بالحسبان، أذكر منها:

1- الكتاب عبارة عن تجربة شخصية وليس بحثا علميا، وموقعه للنشر ليس في عمادة بحث علمي. هناك دور نشر مهتمة بالتجارب الشخصية، وهي جاهزة لنشر مثل هكذا كتاب. من الناحية البحثية، الكتاب ليس موثقا إلا ما ندر، وإذا كان لي أن أقبله أكاديميا، فإنني أقبل بعض أجزائه لتكون مقدمة في الأمور الفنية للتفاوض.

2- الكتاب يكرر نفسه باستمرار، ويعيد ذات الأفكار بين الحين والآخر. فمثلا يذكر الكاتب المصالح كأساس لتصرفات الناس والدول في صحة 12، ويكررها في صفحة 16،

عبارة العوامل المشتركة بين البشر مكررة في عدد من المواقع. وكذلك النقاط المشتركة بين المتفاوضين، وفهم الطرف الآخر وتفهمه.

3- كثير من الفقرات قصيرة جدا ولا تؤدي غرضا لأنها غير مشروحة وغير متسلسلة منطقيا. من المعروف في البحث العلمي أن مادة البحث يتم ترتيبها في فقرات، تبدأ كل فقرة بفكرة محمولة في الجملة الأولى، ثم تلي الجملة عدة جمل شارحة للفكرة. بعدها يتم الانتقال إلى الفقرة التالية والمربوطة منطقيا ومعلوماتيا بالفقرة التي سبقت، وهكذا. فمثلا، هناك فقرة صفحة 8 تقول: “الصراع رافق البشر منذ البداية، وكذلك المفاوضات.” هذه جملة هامة جدا تحتاج إلى مجلد لإثباتها، ولا يستطيع صاحب علم أن يقولها ويدير ظهره. تقول فقرة أخرى في صفحة 79: “ما نريد قوله هنا هو: إن أهم ما يجعل المفاوضات عملية ناجحة تستند على قدرتنا على فهم طبيعة البشر، والاستعداد، وتحديدنا للمصالح التي نحاول أن نتوصل إليها، والقاعدة المشتركة المتوجب التوصل إليها مع الطرف الآخر من خلال إستراتيجية محددة. كل ذلك وغيره يتحد ليكون أدوات للمفاوضات.” لاحظ هنا أن كلمة الاستعداد بدون مزاوجة مع أي شيء. أما طبيعة البشر فقد عجز العلماء حتى الآن عن تحديدها، وهي تبقى موضوع أبحاث علمية معقدة وشائكة وفي مختلف حقول العلم، ولا أظن أن المفاوض الفلسطيني سيكون قادرا خلال العقود القادمة على فهم طبيعة الإنسان.

4- التسلسل المنطقي في كل الكتاب متضعضع، والمواضيع متداخلة بطريقة هشة غير انسيابية. اقرأ مثلا صفحة 15 التي تزدحم بأفكار متناثرة من هنا وهناك. صحيح أن الأفكار لها علاقة بالموضوع، لكن انسيابيتها معدومة، ولم تستوف أي فقرة حقها في الشرح. تبدأ الصفحة بالحياة مفاوضات، ثم تنتقل إلى المفاوضات الاختيارية، ثم كون المفاوضات علم يقوم على تداخل العلوم، ثم مصالح المفاوض، ثم عدم عيبية المفاوضات، ثم دراسة الطرف الآخر. أفكار متسارعة وكأن الكاتب يحمل في عقله وزرا يريد أن يلقيه.

النواحي الفلسفية

يحتوي الكتاب على عدد من الأغلوطات الفلسفية والشروخ المنطقية أذكر منها:

أ‌-  يقول الكتاب في صفحة 6: “فحيث وجدت المصالح وجدت الصراعات.” ربما يأتي أحدهم بالقول بأنه حيثما وجدت المصالح وجد التعاون. يتفق هوبز، الفيلسوف البريطاني مع الدكتور صائب، لكن لوك سيجد صعوبة كبيرة في الموافقة. هذه جملة تحمل تعميما واسعا جدا ولا يمكن أن يحيط بتاريخ العلاقات الإنسانية البينية، أو علاقات الإنسان بمحيطه.

ب‌- يقول الكاتب في صفحة 7: “من البديهي والطبيعي أن نثير مثل هذه التساؤلات. فأينما وجدت الصراعات كانت المفاوضات وكلتاهما وسيلة للوصول إلى الغايات.” ويقول في ذات السياق في صفحة 13: “إذا ما كانت الصراعات حتمية، وجزءا من حياتنا اليومية، فإن المفاوضات – أيضا حتمية، وجزء من حياتنا.” تحتوي هاتان الجملتان على أغلوطة فلسفية كبيرة وهي أن الاشتقاق ليس من جنس الافتراض الأساسي وليس مشمولا فيه. في المنطق، يتم وضع افتراض أساسي من قبل الكاتب ويؤمن هو بصحته، ثم ينحدر في اشتقاقات متتالية متتابعة يستند كل واحد منها على الذي قبله ومشمول ضمنيا فيه؛ وإلا فإن الاشتقاق يكون غير صحيح. فمثلا أقول أن المطر يهطل فقط عندما تتواجد الغيوم؛ لكنني أرتكب خطأ جسيما إذا قلت أن السماء ستمطر لأن هناك غيوما. قد تكون الغيوم ممطرة وقد لا تكون.

الدكتور صائب في هذا الاشتقاق أعلاه يضع افتراضا أساسيا لا يسهل الأخذ به، ويضع اشتقاقا خارجا عن السياق. إذا كانت الصراعات حتمية فإن وسائل وأساليب خوضها تتعدد ومن ضمنها الاستسلام ومواصلة الحروب والمفاوضات. المفاوضات هي عبارة عن شكل من أشكال خوض الصراع، وليست هي الشكل الوحيد. لنا في التاريخ عبرة في هذا المجال. هذا فضلا عن أن الصراعات هي تاريخية الحدوث، ولا أستطيع أن أجزم بحتميتها من الناحية العلمية. وإذا كان الافتراض الأساسي موضع شك فإن الاشتقاق موضع شك أيضا.

ت- يقول الكاتب في ص 12: “إلا أن العامل المشترك بين السلوك التفاوضي للأمم والشعوب المختلفة يكمن في أن الأفراد كالدول تتصرف وكأنها عبيد لمصالحها.” إذا تتبعنا التاريخ، كثير من الأمم تتحرك وفق مسائل أخرى غير المصالح مثل الأمم التي تريد أن تنشر دينا أو فكرة. ربما يقول أحد أن هذه الأمم تبغي مصالحها في النهاية لأنها تريد ثواب الآخرة. هنا لا أستطيع تفسير المادي بالغيبي، أو إعطاء أي تعليل ليس من جنس العمل. المادة العلمية تستند على السببية، والغيبي لا يفسر المادي لأنني على الأقل لست عارفا بالغيبي على الرغم من إمكانية وجود اليقين الإيماني.

ث-تقول الفقرة في صفحة 15: “الحياة مفاوضات بالنسبة للبشر، ما سنحاول التأسيس له في هذا المؤلف هو العوامل المشتركة بين البشر لإحلال التعاون محل الخصام. وأن المفاوضات ليست أداة من أدوات الضرورة فقط. إذ أن المفاوضات حاجة.” قطع الكاتب هنا كل شك وأكد على أن الحياة مفاوضات بالنسبة للبشر، لكنه فشل في التمييز بين البشر والناس. المفاوضات لا تجري بين البشر وإنما بين الناس على اعتبار أن البشر لم يصبح إنسانا إلا بقدراته التمييزية والتي من ضمنها المحادثات البينية ونقل المعلومات. ألا نرى بأن القرآن لا يخاطب البشر وإنما الناس.

المشكلة الأكبر هنا هي أن الدكتور صائب يعتبر المفاوضات حاجة. أرجومراجعة أهل علم النفس في هذا المجال لأن الحاجة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات