الجمعة 19/أبريل/2024

عملية القدس.. أي دلالات؟

"ساري عرابي / خاص لـ""المركز"""

ثمة مجازفة بالقول إن هذا النوع من العمليات الفردية -كالعملية الأخيرة التي نفّذها الشهيد فادي قنبر- يحمل رسائل محددة ومقصودة لجهات بعينها؛ وذلك لأنها ببساطة عمليات لا تقودها جهات منظمة تمتلك قصدية سياسية وقدرة دقيقة على ترجمتها في عمليات محسوبة.

وإن كان الأمر كذلك، فمن العبث انتقاد هذه العمليات من نفس المنطلقات التي يجري منها انتقاد عمليات فصائل المقاومة، فبصرف النظر عن وجاهة الانتقادات التي توجّه للعمل المقاوم في فلسطين، فإن العمليات الفردية تفتقر إلى قيادة تنظيمية متعينة يمكن مخاطبتها بالانتقاد والتقويم، وهنا يغدو النقد مأزومًا، ويجترّ ذات المقولات الدالة على موقف رافض للمقاومة مهما كانت السياقات والملابسات.

مقاومة الشعب الفلسطيني تاريخيًّا كانت شعبية في إطارها العام، إلا أنها دائمًا ما اتخذت أشكالاً تنظيمية

بيد أن هناك فرقًا بين الرسائل المحددة التي يمكن تلمسها من الفعل المنظم، وبين الدلالات العامة التي تؤكد عليها أو تشير إليها العمليات الفردية، وهذه الدلالات قد تكون بالغة الأهمية من جهة تفسير المرحلة التي تقع فيها، أو من جهة الإشارة إلى التحولات الممكنة، أو من جهة الإشارة إلى العوامل الكامنة والفاعلة في الوقت نفسه في عمق المجتمع.

سياسيًّا يمكن بسهولة اكتشاف السياق الذي حتّم العمليات الفردية؛ فمع أن مقاومة الشعب الفلسطيني تاريخيًّا كانت شعبية في إطارها العام، إلا أنها دائمًا ما اتخذت أشكالاً تنظيمية، تنظّم العمل الشعبي، وتوجهه، وتسعى لتعظيمه وديمومته، إذ من المحال، ضمن الظروف الفلسطينية الخاصة، أن تستمر هبّة شعبية دون رافعة تنظيمية إلى وقت طويل.

وحتى الانتفاضة الأولى، الأكثر شعبية وقدرة على استيعاب الجماهير وشرائح الشعب كافة؛ نظرًا لشروطها الموضوعية وسماتها الخاصة المتصلة بطبائع الحقبة التاريخية الفلسطينية نفسها، كان الطابع التنظيمي واحدًا من سماتها الملهمة، والتي تمتلك قدرة فريدة على التأثير والتأطير وجذب الشباب وإعادة إطلاق العمل.

بمعنى ما، كانت الجماهير التي تطلق الحدث، أو تلتحق به، أو تغذيه بحضورها، وترفع من عنفوانه؛ تؤول في النهاية إلى تفويض القوى المنظمة بإدارة الحدث، ثم تتكل على تلك القوى، في مسلك كفاحي طبيعي، فثورات التحرر الوطني بطبيعتها تمتلك وعيًا سياسيًّا بأهدافها، يقتضي إعادة تنظيم الفعل النضالي بما يتسق مع ذلك الوعي، ومن ذلك تنظيم الثورة.

جاءت العمليات الفردية في داخل الحالة التي أطلق عليها فلسطينيون “انتفاضة القدس”، في سياق مركّب غير مسبوق

هذه المرّة، جاءت العمليات الفردية في داخل الحالة التي أطلق عليها فلسطينيون “انتفاضة القدس”، في سياق مركّب غير مسبوق؛ فهي في أساسها لم تكن منفصلة عن التنظيمات الفلسطينية، بالنظر إلى الرافعة التعبوية التي شكّلتها الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وبالنظر إلى أن فاتحة هذه الحالة كانت بعملية منظمة تقف خلفها خلية تابعة لحماس (عملية إيتمار)، وبعملية طعن فردية نفّذها الشهيد مهند الحلبي المنتمي لحركة الجهاد الإسلامي، وبمساعدة صديق له ينتمي لحماس، الأمر الذي يعني بدوره أثر التعبئة التنظيمية على إطلاق أشكال المقاومة المتعددة في الضفة الغربية.

وباستمرار هذه الحالة، كشف الاحتلال عن العديد من المجموعات التي كانت تخطط، أو وصلت مراحل متقدمة من التخطيط لتنفيذ عمليات مسلحة، وتتبع لتنظيمات فلسطينية مقاومة، ولاسيما حركة حماس، وقد تخللت الحالة مشاهد مألوفة من الذاكرة النضالية القريبة، كعمليات إطلاق النار، والاشتباكات مع المطاردين، كما حصل مع المطارد الشهيد محمد الفقيه.

بيد أن من سمات هذه الحالة الخاصة، العمليات الفردية التي لا تنبع من أي توجيه تنظيمي، والتي كانت كثيفة جدًّا في البداية، ثم تحولت إلى متفرقة وإن صارت أكثر تركيزًا وأثرًا، وهو ما يعني بداية أن هذا الفعل المقاوم هو فعل شعبي منبثق بشكل طبيعي وتلقائي عن المجتمع الفلسطيني دون إرادة فوقية قادرة، الأمر الذي يشير إلى الطبيعة المقاومة الملازمة للشعب الفلسطيني، ولو أن هذه الحالة تحولت إلى حالة أوسع تتولى الفصائل القسط الأكبر من إدارة فعاليتها لما اختلفت هذه الحقيقة، طالما أنها استمرار لحالة شعبية أصيلة، وتعبير عن طبيعة الشعب.

كشف الاحتلال عن العديد من المجموعات التي كانت تخطط، أو وصلت مراحل متقدمةمن التخطيط لتنفيذ عمليات مسلحة، وتتبع لتنظيمات فلسطينية مقاومة، ولاسيماحركة حماس

الذي عزز الفعل الفردي، بخلاف رغبة وإرادة قوى السيطرة التي اجتهدت في اجتثاث المقاومة المنظمة، هو بالضبط هذا الاجتثاث، أي هو بالضبط انسداد آفاق العمل المقاوم في الضفة الغربية، مع تفكيك بنى فصائل المقاومة وشنّ حملات الاستئصال عليها، والحصار والترويع على منتسبيها، وفي ظل انعدام أي مشروع سياسي بديل، إذ انتهى مشروع التسوية إلى انتفاء أي إمكانية لتقديم أي وعود جادّة للفلسطينيين.

فإذا كانت المقاومة في أصلها انبثاقًا شعبيًّا، وكان هذا الشعب مقاومًا بطبعه، فإن سدّ آفاق المقاومة بتدمير بنى المقاومة وكبح قدرة منتسبيها على الفعل، لا يعني بالضرورة كبح الشعب نفسه عن الفعل، مهما رافق العملية الأمنية، عمليات ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية عميقة تروم إعادة هندسة الوعي الفلسطيني وترتيب أولوياته بما يناسب المستعمر.

ومهما كان القدر الذي استغرقت به هذه العمليات شرائح وأفراد المجتمعات، فإن الوعي الكامن يعود -كما هي العادة- ليطغى على نتائجها، تماما كما حصل في الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، فقد تغلب الوعي الكامن على كل عمليات الأسرلة أو عمليات هندسة الوعي، دون أن ننفي اختلاف النتائج عمقًا وأثرًا في كل مرحلة.

تحول العمليات الفردية من عمليات كثيفة إلى عمليات متفرقة ولكن مركزة، نتيجة طبيعية متوقعة طالما أن فصائل المقاومة لم تتعافَ بالشكل الكافي للاستفادة من هذه الحالة الكفاحية، وطالما أن السلطة الفلسطينية بحزبها حركة فتح لم تكن معنية بتصاعدها، وإنما العكس، فلم يكن بمقدور الجماهير الاستمرار بالوتيرة نفسها.

ولكن التحول إلى عمليات متفرقة، حالة معروفة ومتكررة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، كما حصل في جملة العمليات التي سبقت الانتفاضة الأولى، أو العمليات التي جاءت في ذيل الانتفاضة الأولى وسبقت الانتفاضة الثانية، مع فارق جوهري يتمثل في كون تلك العمليات منظمة في الغالب، وهذه الراهنة فردية غالبًا مع وجود عمل منظم.

لا يعني هذا أن الحالة الجارية ستقود بالضرورة إلى حالة كفاحية أوسع وأشمل وأشد عنفوانًا، ولكن دائمًا ما كانت مراكمة الفعل في التاريخ تقود إلى ما هو مفاجئ وأكبر وأوسع.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات