الجمعة 29/مارس/2024

أبقار نووية

أبقار نووية

 

أبقارنووية

صبحي حديدي

صحيفة القدس العربي اللندنية 2/5/2005

 الحاخام يسرائيل أرئيل، رئيس معهد الهيكل في القدس القديمة وأبرز وجوه الجيل الشاب الذي يقود تيّارات التطرّف اليهودي والإرهابي في “إسرائيل” هذه الأيام، لا يدعو إلى هدم المسجد الأقصى لتحقيق هدف وحيد هو عرقلة خطة الانسحاب من غزّة، كما يُشاع عادة. هدفه الأوّل، الجوهري والعقائدي والتوراتي الأسبق والأبرز، هو الهدم من أجل إعادة بناء الهيكل الثالث الشهير، إذْ لا غنى عن فعل التدمير هذا لكي يتمّ التشييد، خصوصاً وأنّ عدداً من الترتيبات والشروط والمقتضيات الأخرى باتت في متناول اليد. بينها، مثلاً، ذلك الشرط الجوهري الحاسم بدوره والذي لا يقلّ أهمية: البقرة الحمراء!

ففي الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد في العهد القديم، يكلّم الربّ موسى وهارون ويفرض الشريعة التالية: كلّمْ “بني إسرائيل” أن يأخذوا إليك بقرة حمراء صحيحة لا عيب فيها ولم يَعْلُ عليها نير، فتعطونها لإلعازار الكاهن فتخرج إلى خارج المحلة وتذبح قدّامه. ويأخذ إلعازار الكاهن من دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات. وتحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها. ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفا وقرمزاً ويطرحهن في وسط حريق البقرة .

 بذلك باتت هذه فريضة دهرية، عى حدّ التعبير الذي يرد بعدئذ في سفر العدد، والطقس الضروري لتطهّر الكهنة الكبار قبيل دخولهم إلى الهيكل. استطراداً، اكتسبت البقرة الحمراء مكانة بالغة الأهمية في الفقه التوراتي اللاحق، أو بالأحرى ذلك الفقه كما طوّرته الفرقة اليهودية المتشددة التي تعرف باسم الحاسيديم بصورة خاصة، وكما طوّرته أيضاً وعلي نحو لا يقلّ تشدداً تلك الفرق المسيحية التي تحدد علائم مفصّلة لقدوم المخلّص Meiahفي طور المجيء الثاني. وهذه الفرق الأخيرة تؤمن أن رماد البقرة الحمراء لا غني عنه لتطهير الموقع الذي سيقام عليه الهيكل الثاني استعداداً لوصول المسيح المخلص.

 وهكذا، على المنوال ذاته، فإن القسّ غاي غارنر، راعي أبرشية بورترديل في ولاية جورجيا الأمريكية، يشرف منذ سنوات على تربية قطيع من الأبقار الحمراء لكي يشحنها إلى الأراضي المقدسة في الوقت المناسب. والمزارع الأمريكي كلايد لوت قرأ عن هذه الأبقار الحمراء، ثمّ اكتشف أنّ مزرعته تعجّ بها، فاتصل بمَن يهمّه الأمر من الإسرائيليين، وتعاقد معهم على تربية وتوريد 200 من الأبقار الحمراء الحوامل، مقدّر لها أن تلد 100 ثور و100 بقرة، سوف يتشكّل منها قطيع التطهير الضروري.

 وفي خريف 1996، تواترت في الصحافة الأمريكية والإسرائيلية تقارير صحافية تتحدّث عن أعجوبة ميلودي، العِجْلة الحمراء التي ولدت في مستوطنة كفار حاسيديم، وأطلقت من جديد تلك النار المشتعلة في أفئدة غلاة اليهود المنتظمين في أكثر من 20 منظمة متطرّفة إرهابية: تهديم المسجد الأقصى لإخلاء الموقع الدقيق الذي سيقوم عليه بناء الهيكل الثالث، الذي دمّره الرومان سنة 70 قبل الميلاد. وكان ميلاد ميلودي بمثابة نذير لا يقبل الدحض عند هؤلاء، سيّما وأنّ أرض الميعاد لم تشهد ولادة بقرة حمراء منذ أكثر من ألفي سنة، وميلودي سوف تكون بالضبط البقرة الحمراء العاشرة في تاريخ “بني إسرائيل”!

 وكما حدث مؤخراً، حين كرّست صحيفة هآرتس ملحقها الأسبوعي للتحذير من أخطار مخططات نسف الأقصى، فإنها كانت سبّاقة إلى قرع جرس الإنذار عند ولادة ميلودي، فحذّرت الإسرائيليين العلمانيين من عواقب هذا النذير: الأذى الكامن في هذه العِجْلة أكبر بكثير من الآثار التي تخلّفها قنبلة نووية إرهابية! وآنذاك أيضاً دوّنتُ في مفكرتي الشخصية عبارة نقلتها صحيفة ليبيراسيون الفرنسية علي لسان غيرشوم سولومون، أحد زعماء المتطرّفين: اقتربت الساعة، ولينتظر الجميع معجزات الرب!

 برزت، مع ذلك، مشكلتان سبّبتا القلق الجدي لحاخامات الحاسيديم: الأولى أن ولادة البقرة المعجزة تمّت عن طريق إخصاب صناعي وباستخدام حيوانات منوية لثور أوروبي غريب، ولد وتربى ويواصل العيش في سويسرا، ولم يسبق له أن ذاق طعم الكلأ المبارك في الأرض المباركة. وهو بهذا المعنى ثور غوييم كما كان مناحيم بيغين سيقول. المشكلة الثانية أنّ بعض الشعيرات البيضاء الخفيفة أخذت تظهر على ذيل ميلودي ، وأن رموشها بدأت حمراء قانية ولكنها أخذت تنقلب تدريجياً إلى السواد، الأمر الذي أخذ يهدد بانكشافها كبقرة عادية لا بالحمراء ولا بالقرمزية. وهذا ما حصل بالفعل، إذْ حلّ سوء الطالع بـ ميلودي وتواصل نموّ الشعر الأبيض في ذيلها أيضاً، الأمر الذي أسقطها من قداسة موقع البقرة الحمراء العاشرة، وأعادها إلى المرعى دون إبطاء!

 لكنّ خيبة واحدة لا تفلّ في عزيمة أحفاد الكاهن العتيق إلعازار، وهم – إلى جانب إعداد المتفجرات والموادّ الناسفة – يتابعون تحضير خشب الأرز وعشبة الزوفا ومحلول القرمز!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات