الخميس 28/مارس/2024

حمل السلاح للارتزاق والعربدة

حمل السلاح للارتزاق والعربدة

فوضى السلاح في المجتمع الفلسطيني تشكل ظاهرة خطيرة تهدد أمن الفلسطينيين واستقرارهم، وتتمثل هذه الظاهرة، التي نشأت في ظروف خاصة وفرتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى، في اتخاذ السلاح مهنة للارتزاق والعربدة على الآخرين، ومنذ ذلك الوقت أخذت هذه الظاهرة تضرب جذورها في المجتمع الفلسطيني حتى كادت أن تصبح ثقافة شعبية راسخة.

الفقر والعنف وغياب التربية الصحيحة هي أهم خصائص البيئة التي تشأ فيها هذه الظاهرة التي تنتشر بقوة بين المراهقين ممن يجدون في حمل السلاح واستخدامه وسيلة لتحقيق الذات والأمنيات، ويتسم الأشخاص الذين تستحوذ عليهم هذه الظاهرة بالفراغ الثقافي وضعف الشخصية والطيش والفشل المدرسي والظروف العائلية القاسية، الأمر الذي يجعل منهم فريسة سهلة لبعض الجهات التي تستدرجهم وتجعل منهم “عناصر فوضى” فعالة يتولون نشر فوضى السلاح.

في أثناء الانتفاضة الأولى التي سميت بـ “انتفاضة المساجد”، وفي ظل الفوضى الكبيرة التي صاحبتها، لجأ الكثيرون من الصبيان الذين كانوا يعانون من ظروف عائلية سيئة ويعانون من تعثر دراسي وبطالة إلى إطلاق النار في الهواء إيذاناً منهم بتحول جوهري في مسيرة حياتهم، حيث يصبح كل من يطلق النار في ذلك الوقت مطلوباً لدى قوات الاحتلال ويسمى “مطارَداً”.

وشكل أولئك المطاردون نواة للفوضى وفرق الموت التي أخذت على عاتقها تطبيق القانون بطريقة فوضوية إلى أبعد الحدود، باستثناء المطاردين الذين كانوا مجاهدين بحق وكانوا يطارِدون قوات الاحتلال ويتصدون لها، وقد شكل هؤلاء المجاهدون نواة لعدد من الأجنحة العسكرية والكتائب الجهادية التي أجبرت الكيان الصهيوني فيما بعد على الانسحاب من بعض مناطق قطاع غزة والضفة الغربية.

هواية حمل السلاح واتخاذه وسيلة للحصول على مكانة اجتماعية وكسب احترام الآخرين وتقديرهم هو أحد أهم الأسباب التي حولت كثيراً من المراهقين والأطفال إلى عناصر فوضى، فيعتبر حمل السلاح والسير به في الطرقات عند هؤلاء العابثين أمنية سامية وغاية عظيمة، أضف إلى ذلك أن هناك من يدفع الأموال لعناصر الفوضى مقابل قيامهم بـ “طلعات” فوضوية واعتداء على الآخرين وتخريب للمرافق العامة، بل إن هناك ممن ينتسبون إلى بعض الأجهزة الأمنية من يبيع ما لديه من رصاصات بثمن باهظ مدعياً اشتراكه في طلعة أو تسببه في تخريب وفوضى فيقوم جهازه بإعطائه رصاصات عوضاً عنها.

وقد ساهم التنافس المحموم بين التنظيمات الفلسطينية المختلفة على استقطاب أكبر عدد من الأعضاء في صفوفها إلى لجوء بعض التنظيمات للتفريط بجودة عناصرها ومؤهلاتهم النفسية والأخلاقية وكفاءاتهم العلمية، مما أدى إلى انتساب عناصر الفوضى إلى تلك التنظيمات، خاصة في ظل وجود حوافز وإغراءات كثيرة أهمها المال والسلاح.

كما أن انتشار البطالة شجع بعض العائلات الفقيرة على السماح لأبنائها بالانخراط في بعض الأجهزة الأمنية ليصبحوا بعد ذلك من أهم عناصر الفوضى ووبالاً على المجتمع، ولم تسلم تلك العائلات من شر أبنائها الذين ورطوا أنفسهم وعائلاتهم في عمليات قتل غير شرعية، الأمر الذي ألجأ بعض العائلات على تسليح أبنائها وانضمامهم إلى بعض الأجهزة الأمنية وبعض التنظيمات بهدف الحصول على “غطاء تنظيمي” لإكساب جرائمهم الصفة التنظيمية “المقدسة” وحمايتهم من الصراعات العائلية المسلحة.

وقد استفحل الأمر ببعض العائلات حتى تحولت إلى ما يشبه عصابات المافيا، خاصة في قطاع غزة، فقد استغلت بعض العائلات الغطاء التنظيمي الممنوح لها من الأجهزة الأمنية والتنظيمات للاعتداء على حقوق الآخرين والعربدة والاستقواء على أفراد المجتمع، مستهترة بالقيم الدينية والمجتمعية والعرفية، فاستولت على أراضي عائلات ضعيفة وأملاك غائبين وتعسفت في استخدام السلاح في الثأر وحل خصوماتها ونزاعاتها وتجاوز القانون والاعتداء على حرية الآخرين وممتلكاتهم وأموالهم.

وبسبب هذا التعسف في استخدام السلاح، تحولت بعض البيوت التابعة لتلك العائلات، وهي محدودة العدد ومعروفة جيداً لدى المجتمع الغزي، إلى ثكنات عسكرية يكتظ محيطها بعناصر الفوضى المدججين بالسلاح، ليقيموا الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش في الشوارع المؤدي إلى تلك البيوت، وليزرعوا الألغام في محيطها ويعرقلوا المرور ويقطعوا الطريق، وليرهبوا المارة والجيران. كما أن العديد من هذه العائلات الفوضوية وجدت من تجارة السلاح والمخدرات، وسيلة فعالة لتحقيق الأرباح الطائلة والثراء الفاحش.

لذلك تحرص تلك العائلات على استمرار الظروف التي تتيح لها ممارسة سلوكها الشائن من خلال إشاعة الفوضى والتخريب ونشر الرعب والذعر بين أفراد المجتمع ومحاربة سيادة القانون، ومما يثير الدهشة أن تلك العائلات تجد من يدعمها ويشجعها من بعض الأجهزة الأمنية التي استطاعت التغلغل فيها بشكل عنقودي حتى أصبح الانتساب إلى تلك الأجهزة الأمنية أمراً وراثياً في تلك العائلات.

والقاسم المشترك بين تلك العائلات الفوضوية والأجهزة الأمنية التي ترعاها وتغذي طغيانها هو استغلال فوضى السلاح في تحقيق أغراض شخصية وأجندات سياسية داخلية وخارجية، وعلى رأسها إسقاط الحكومة الفلسطينية وإفشال جهودها في الإصلاح وإلهائها في مشاكل داخلية معقدة، وبذلك تعمل تلك الأجهزة “الأمنية” على نشر الخوف والرعب بطريقة مناقضة لمسمياتها، وذلك انسجاماً مع الطريقة الأمريكية في اختيار المسميات والمصطلحات !!

ومع الأسف الشديد، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول العربية بتزويد الأجهزة الأمنية التي ترعى عناصر الفوضى وتضمها في صفوفها بالسلاح الذي يصل إلى العائلات الفوضوية لتصبح كأسافين قد دُقت في جسم المجتمع الفلسطيني لتمزق نسيجه الاجتماعي وتضعف جبهته الداخلية، وهذا بدوره يخدم مصلحة الاحتلال والدول المعادية لشعبنا الفلسطيني من خلال “الفوضى الخلاقة” التي خلقتها الإدارة الأمريكية في المجتمع الفلسطيني، والحقيقة أنها “فوضى حلَّاقة” لأنها تحلق الهدوء والأمن والاستقرار، وكل ذلك يأتي في سياق المحاولات الأمريكية لعولمة الفوضى والتخريب !!

كما أن الاحتلال شجع ظاهرة فوضى السلاح بكل السبل، وسمح لعناصر الفوضى بالتنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة والسفر إلى الخارج، حتى قبل مجيء السلطة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة، كما أن الاحتلال لا يزال يسهل لهم تلقي التدريب على الفوضى والتخريب في بعض الدول العربية المجاورة لفلسطين، ويساعد الاحتلال أيضاً في وصول الأسلحة والعتاد العسكري والأموال بسهولة إلى تلك العناصر.

ومن هنا يتحمل شعبنا الفلسطيني بكل فئاته وتنظيماته مسؤولية التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة التي باتت تهدد تضحيات الشعب الفلسطيني وإنجازاته وصموده، وتعرض أمنه للخطر، وتنشر الذعر والرعب في مجتمعنا الذي هو أحوج ما يكون إلى جبهة داخلية متماسكة تعزز صموده في وجه الاحتلال الغاشم، لذلك فإن التصدي لتلك الظاهرة ومحاربتها يجب أن يكون على رأس الأولوية في أي مشروع فلسطيني للإصلاح.

إن القضاء على هذه الظاهرة هو تحد كبير يواجه الحكومة الفلسطينية اليوم، وما يزيد هذا التحدي صعوبة وتعقيداً الحملات الإعلامية المناوئة للحكومة الفلسطينية والتي تظهر عناصر الفوضى على أنهم عناصر أمنية محترمة تعمل في أجهزة السلطة الفلسطينية وأن أي محاولة لتحجيمهم والحد من ممارساتهم الساقطة ستؤدي إلى حرب أهلية فلسطينية، ويبقى السؤال “إلى متى يتحمل الشعب الفلسطيني أذى هذه العناصر وعبثها وفوضتها” مطروحاً إلى أن تجد هذه الظاهرة من يعالجها بقوة وحكمة، وهو سؤال ستجيب عليه الأحداث التي ستشهدها الساحة الفلسطينية في الأشهر القادمة.

5/10/2006م

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات