السبت 20/أبريل/2024

التوجه الباكستاني نحو إسرائيل

التوجه الباكستاني نحو إسرائيل

بين الحين والآخر تطلق الأوساط الحكومية الباكستانية بالونات اختبار سعياً منها لاستطلاع ردود الأفعال وحدود الرفض والقبول الشعبية بشأن سيرورة العلاقات بين إسلام أباد وتل أبيب.

الأسلوب الأكثر تكراراً بهذا الصدد هو نسب أخبار معينة حول هذه القضية إلى مصادر غير رسمية أو تأبى الكشف عن نفسها، تؤكد حدوث تطور في التفاعلات المتبادلة بين مستويات المسؤولية في البلدين، ثم النفي العلني الرسمي لهذه الأخبار بعد مسافة زمنية تكفى لمعاينة أصداء هذه الأخبار لدى سواد الناس بعامة والقوى السياسية المدنية الفاعلة بخاصة.

يراد بهذا التكتيك، علاوة على الاستعلام عن توجهات الرأي العام، تأهيل هذا الأخير وتهيئته أو “تعويده” على ابتلاع السياسة المستجدة التي اختطها النظام الحاكم، تجاه دولة كانت مرفوضة لديه منذ كانت فكرة وظلت كذلك منذ أعلنت في العام 1948.

ولمن لا يعلم فقد كان الصدود عن الصهيونية، فكرة وحركة ثم دولة، من نقاط التلاقي والتوافق القليلة التي اجتمعت عليها قيادات شبه القارة الهندية الأشهر قبل الاستقلال والانشطار إلى دولتي الهند والباكستان عام 1947 وبعده لعدة عقود. حدث ذلك زمن الكبار، المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو ومحمد على جناح ومولانا شوكت علي، ومن اهتدى بفكرهم وعقائدهم ومواقفهم السياسية من الخلف الصالح.

وكانت مداخلات مندوب الباكستان ظفر الله خان أمام الجمعية العامة بين يدي المداولات السابقة على قرار التقسيم الشهير 181، من أقوى المدافعات غير العربية عن عروبة فلسطين بالكامل في تلك المرحلة المنكودة، ومع أن المواقف العربية، دون استثناء الفلسطينيين انقلبت في غضون ربع القرن الماضي من الحرب الاستراتيجية ضد “إسرائيل” إلى السلام الاستراتيجي معها. إلا أن إسلام أباد استعصمت بمناهضتها لهذه الدولة غير مأخوذة بالنظرية القائلة إنها بذلك تكون ملكية أكثر من الملك.

ولذا فإن خطوة التقارب مع تل أبيب التي اشتقها مؤخراً الجنرال برويز مشرف، تعد بحق تحولاً فارقاً عن ثابت من ثوابت السياسة الباكستانية الدولية. ولأن مشرف ونخبته الحاكمة يعلمون يقيناً حجم هذا التحول ويتوقعون تداعياته على شعبيتهم ومكانتهم في الداخل الباكستاني، فإنهم منشغلون بالكيفية التي يمكن بها تمرير هذه الخطوة وبيعها لسواد الباكستانيين بأقل خسارة ممكنة بالنسبة لهذه الشعبية والمكانة.

هذا مبرر معقول لعمليات التسريب التي تجرى عن اللقاءات الباكستانية الإسرائيلية.. وآخر نماذجها سكوت إسلام أباد عن التعليق على خبر قيام وفد باكستاني “غير رسمي”، يضم أكاديميين ورجال أعمال وضباط جيش متقاعدين وصحافيين بزيارة إلى “إسرائيل”.

ففي غمرة الجدل بشأن هذا الحدث، بين مكذب ومصدق، ومعارض ومؤيد، تستطيع نخبة الحكم تبين مدى صلابة الأرضية التي تقف عليها سياستها الإسرائيلية الجديدة، وما إذا كان الوقت مناسباً من عدمه، للخطوة التالية، خطوة التعامل الرسمي العلني المفتوح.

والظاهر أن الدبلوماسية الباكستانية تجد صعوبة في إخفاء ارتباكها وحيرتها وهي تعرض سيناريو تواصلها المفاجئ مع الكيان الصهيوني. ففي الوقت الذي صمتت فيه عن التدخل في التناظر الصحافي حول زيارة الوفد المذكور، خرج الرئيس مشرف بتصريح لافت لا يقبل تعدد التأويلات. فهو أشار في مقابلة مع شبكة “سي. إن. إن” إلى اتصالات حكومته مع “إسرائيل” بوصفها توجها “استراتيجياً” يتعين على باكستان الحفاظ عليه.

ومضى إلى أن “معظم أبناء الشعب الباكستاني يؤيدون سياسته في هذا الصدد”! وإذا كان الأمر كذلك، فبم يفسر الصمت الحكومي عن تأكيد أو نفي واقعة الزيارة؟ أو يعقل أن يكون الوفد إياه الذي يقال إنه من 174 عضواً راح إلى “إسرائيل” وجاء منها ولا علم للحكومة الباكستانية؟ ثم إنه طالما أن التواصل مع “إسرائيل” يحظى بدعم الأغلبية الشعبية، فلم نلحظ التلعثم والتردد واللا أدرية الحكومية بين خيارات فتح باب هذا التواصل أو إغلاقه أو مواربته أو تأجيل ولوجه إلى وقت آخر؟

نزعم في كل حال أن الداخل الباكستاني يشهد تقلصات كبيرة على خلفية المقاربة الحكومية للعلاقة مع “إسرائيل”. وأن الجنرال مشرف يبالغ كثيراً بجعل هذه المقاربة توجهاً استراتيجياً تجب المحافظة عليه. التوجه الاستراتيجي ينشأ عن حاجة استراتيجية تقتضيها المصالح العليا للبلاد والعباد، فما هي الحاجة والمصالح الباكستانية التي تتعلق قياماً وقعوداً بهذه العلاقة الفذة؟.

لندع جانبا القول إن “إسرائيل” أحد أهم المداخل إلى قلب واشنطن. فنظام مشرف أثير لدى الولايات المتحدة لاسيما منذ مشاركته اللا محدودة في “الحرب على الإرهاب” غداة الحادي عشر من سبتمبر.

ولا ينبغي التذرع بأن التواصل مع الدولة الصهيونية يحقق لإسلام أباد التوازن مع نيودلهي في أحد مظاهر العلاقة مع دول الشرق الأوسط، بعد أن سبق للأخيرة التودد لإسرائيل. فالود الهندي الصهيوني عبر القوى الهندوسية المتطرفة بالذات أقدم من زمن إعلان هذه الدولة.

كذلك لا تحتكر “إسرائيل” سلعاً أو موجودات تعد الباكستان في مسيس العوز لها، مع ملاحظة أن التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية هي غربية الأصل أولًا ولا تتحرك في المجال الدولي إلا تحت سمع وبصر وسيطرة واشنطن ثانياً.

وأنه إذا ما قدرت إسلام أباد إلحاحاً لهذه التكنولوجيا فما عليها سوى طرق أبواب الغرب، أصحابها، مباشرة إلى هذا كله فإن التسوية الفلسطينية والعربية الإسرائيلية لن تزدهر أو تتسع أكثر بعد التقارب الباكستاني الإسرائيلي، كما ليس بمثل هذا التقارب تمسي تل أبيب أكثر مطواعية وتجاوباً مع حقوق الفلسطينيين والعرب.

ولا أكثر مراعاة لمقدسات المسلمين في القدس وفلسطين التي تفعل فعلها في تحرق الباكستانيين لمؤازرة القضية الفلسطينية، لقد ثبت أن عكس ذلك هو الصحيح وأنه كلما طبعت دول إسلامية وعربية معها، تصبح “إسرائيل” أكثر استشراساً وغلواً في غيها ضد هذه القضية.

أين هي إذن “بواعث” التوجه الاستراتيجي الذي يتحدث عنه الرئيس مشرف؟!.. ترى هل تكمن هذه البواعث في نظرية المزيد من التحركات الإقليمية والدولية لاسترضاء واشنطن. ربما كان الأمر كذلك طبقاً لتفكير بعض الخبثاء.

ومع أن الصلة الباكستانية بـ”إسرائيل” تظل قراراً سيادياً لحكومة مشرف، إلا أن هذا القرار سينطوي على أبعاد استراتيجية بالمعنى السلبي فقط، إذا ما أدى إلى تأجيج التشاحن الداخلي وأضاف إلى عوامل التباغض بين النظام ومعارضيه.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات