الجمعة 26/أبريل/2024

الصهيونية وعبء الرجل الأبيض

الصهيونية وعبء الرجل الأبيض

تصنف الأدبيات الغربية والصهيونية دولة “إسرائيل” على أنها دولة يهودية. وقد تبنينا هذا التصنيف، وأخذنا نفسر سلوك “إسرائيل” والصهاينة في ضوء التوراة والتلمود وأحياناً البروتوكولات، وبدد الجهد الفكري العربي نفسه في الحديث عن السامية ويهود الخزر وأرض الميعاد، وكأن “إسرائيل” هي نتيجة الوعد الإلهي وليس وعد بلفور! لقد نسينا الجذور الحقيقية للحركة الصهيونية وإطارها المرجعي، وهو العالم الغربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بتوجهه الإمبريالي الحاد الذي هيمنت عليه الرؤية الإمبريالية الداروينية. وقد أضعف هذا من المقدرة التفسيرية لنماذجنا التحليلية، ومن ثم مقدرتنا على التصدي للجيب الاستيطاني الصهيوني. وفي تصوري أن الدولة الصهيونية ليست دولة يهودية، وإنما دولة استعمارية استيطانية إحلالية تصدر عن الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة التي حولت العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لصالحه، أي أنها تنطلق من الرؤية الداروينية للعالم. وفي هذا الإطار يمكن تفسير سلوكها وحركياتها وإدراكها لنفسها وللعالم العربي.

 

وجوهر المنظومة الداروينية أن العالم في حالة تغير مستمر وتطور إلى الأرقى، وأن آلية التغير هي الصراع، وهو صراع يحسمه القَويُّ لصالحه من خلال العنف بطبيعة الحال، ولذا فإن البقاء ليس دائماً للأصلح أخلاقياً أو لصاحب الحق، وإنما للأقوى مادياً وصاحب السلاح الأكثر فتكاً. والفكر الصهيوني، ترجمة للرؤية الداروينية، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين باسم حقوقهم اليهودية المطلقة التي تستند إلى القوة العسكرية والتي تجبُّ حقوق الآخرين، كما أنهم جاءوا إلى فلسطين ممثلين للحضارة الأوروبية يحملون عبء الرجل الأبيض أي نشر الحضارة الغربية عن طريق الاستيلاء على أرض الآخرين بقوة السلاح أو إبادتهم أو تسخيرهم كعمالة رخيصة، أي أنهم جاءوا من الغرب مسلحين بمدفعية فكرية وعسكرية داروينية ثقيلة، وقاموا بتسوية الأمور على الطريقة الداروينية العلمانية المادية، فذبحوا الفلسطينيين وهدموا قراهم واستولوا على أراضيهم.

 

والنيتشوية هي أهم شكل من أشكال التعبير الفلسفي عن الرؤية الداروينية، فهي فلسفة فردية عدَمية تعبِّر خير تعبير عن الأوضاع الحضارية والفكرية للمجتمع الغربي في ذروة مرحلة التوسع الإمبريالي. وقد تأثر كثير من المفكرين الصهاينة بفكر نيتشه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق تشرب الموضوعات النيتشوية المختلفة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نظرة الإنسان الأوروبي للكون في هذه الفترة.

ونقاط التشابه بين الصهيونية والنيتشوية عديدة، فالنيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، ديانة علمانية ملحدة تعلن موت الإله (“نعم لقد مات الإله وماتت الآلهة جميعاً”)، وهي وحدة وجود مادية ترد الكون بأسره إلى مبدأ زمني واحد هو إرادة القوة. وتتبدى إرادة القوة هذه عند نيتشه في الإنسان الأعلى السوبرمان superman، أما في الإطار الصهيوني فهي إرادة القوة اليهودية التي يمثلها الصهاينة من خلال نشاطهم الاستيطاني المسلح.

 

والنيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، تعادي الفكر وتحتقره وتسبغ نوعاً من الروحية والقداسة على الفعل والحركة، المنفصلين عن القيمة value-free. وقد دعا نيتشه الإنسان إلى أن يعود لحالة الحيوية والطبيعة، ويكون كالحيوان المفترس الأشقر، وينبذ العقائد الدينية وأخلاق الضعفاء. فالقوة بالنسبة له هي “الفضيلة السامية، والضعف هو النقيض في الشر. الخير هو الذي يستطيع أن يحيا ويظفر، أما الشر فهو ما يخور ويهوى”.

 

وتترجم هذه الرؤية الداروينية النيتشوية نفسها إلى رفض الصهاينة التاريخ اليهودي في المنفى الذي يسيطر عليه الحاخامات والمفكرون اليهود. وقد نادى أحد المفكرين الصهاينة بتفضيل الفعل على الفكر، والسيف على الكتاب: “الكتاب ليس أكثر من ظل للحياة، هو الحياة في شيخوختها… السيف ليس شيئاً مجرداً يقف بعيداً عن الحياة. إنه تجسيد للحياة في أعرض خطوطها… وهو تجسيد جوهري ومحسوس يشبه الحياة إلى حدٍّ كبير”. وإذا كان “السيف مثل التوراة هما زينة الإنسان” كما يقول الحاخام إليعازر (وإذا كان السيف مثل التوراة تماماً “قد أنزلا من السماء” كما جاء في خطاب لـ”جابوتنسكي”، ألقاه على بعض الطلاب اليهود في فيينا)، فإن كل شيء يصبح مرتكزاً عليه.

 

انطلاقاً من هذه الرؤية أعاد الصهاينة كتابة التاريخ اليهودي، فركزوا على النقاط التي تجلى فيها ما يسمونه “العنف اليهودي الغريزي”، مثل ثورة “المكابيين” أو حادثة “ماسادا” أو بطولات شاؤول وداود، وصوروا العبرانيين القدامى على أنهم جماعة محاربة من الرعاة الوثنيين الغزاة. ويرى بن جوريون “إن موسى، أعظم أنبيائنا، هو أول قائد عسكري في تاريخ أمتنا”، ومن هنا لا يكون من الهرطقة الدينية في شيء أن يؤكد أن خير مفسر ومُعلق على التوراة هو الجيش، فهو الذي يساعد الشعب على الاستيطان على ضفاف نهر الأردن، فيفسر بذلك كلمات أنبياء العهد القديم ويحققها. (ولنلاحظ كيف يكتسب العنف الكثير من القداسة!).

 

وقد حاول الصهاينة إحياء تقاليد العنف الجسدي بين اليهود، فاليهودي -على حد قول ماكس نوردو- أصبح مترهل العضلات بسبب وجوده في الشتات، ولذلك اقترح أن يقلع عن قهر جسده، وأن يعمل على تنمية قواه الجسدية وعضلاته، أسوة “بذلك البطل باركوخبا، آخر تجسيد، على صعيد التاريخ العالمي، لتلك اليهودية في صلابة عودها المقاتل وحبها لقعقعة السلاح”. إن العنف هنا يصبح الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية، بحيث تصبح شخصية داروينية تؤمن بأن القوة هي الحق.

والرواد الصهاينة الذين كانوا يعدون العدة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وطرد سكانها يعبرون عن هذا المثل الأعلى الصهيوني فقد وصفهم بن جوريون بهذه الكلمات. “كنا ننتظر مجيء الأسلحة ليلاً ونهاراً، ولم يكن لنا حديث إلا الأسلحة، وعندما جاءتنا الأسلحة، لم تسعنا الدنيا لفرط فرحتنا، كنا نلعب بالأسلحة كالأطفال ولم نعد نتركها أبداً. كنا نقرأ ونتكلم والبنادق في أيدينا أو على أكتافنا”.

 

وإذا كان العنف هو البوتقة التي يولد من خلالها اليهودي الدارويني النيتشوي الجديد، فهو أيضاً البوتقة التي يولد فيها المجتمع الصهيوني الجديد. فالجيش الإسرائيلي لا يقوم بالدفاع عن “إسرائيل” فحسب، بل إنه المكان الذي تولد فيه الحضارة الإسرائيلية ذاتها: فقد لعب الجيش –حسب تصور بن جوريون- دوراً حضارياً أساسياً في مزج جماعات المهاجرين بعضها ببعض آخر. فالمهاجرون يلتحقون بهذا المعهد حال وصولهم إلى “إسرائيل”، حيث يكتسبون الخبرات، ويتعلمون العبرية، ويطرحون عنهم قصور المنفى ليصبحوا مواطنين إسرائيليين عاديين. وهو “مدرسة للشباب الناشئ”، دار حضانة لتفرد الأمة، لحضارتها وشجاعتها، “وهنا في الجيش يجب أن يجند معلمونا بكل ما أوتينا من قوة”.

وفي أرض الميعاد المسلحة هذه لابد وأن يكون الفلاح محارباً، والصانع مقاتلاً، وكل المؤسسات لابد وأن تكتسب طابعاً عسكرياً. بل إن الافتراض القائم في “إسرائيل” هو أن حالة الحرب ضرورة حضارية حتى تمكن صياغة الأمة اليهودية الجديدة وصياغة الإنسان الإسرائيلي.

إن النيتشوية الداروينية، وعقيدة البقاء للأقوى، وليس التوراة والتلمود، هي العقيدة التي نشأ في أحضانها وترعرع الفكر الصهيوني، وهو في هذا لا يختلف البتة عن أي فكر استعماري استيطاني إحلالي، أما العقيدة اليهودية فهي مجرد ديباجات هدفها تجنيد الجماهير اليهودية وتحسين صورة “إسرائيل” الإعلامية.

 

والله أعلم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات