عاجل

الثلاثاء 23/أبريل/2024

متى يبدأ التاريخ اليهودي؟

متى يبدأ التاريخ اليهودي؟

حين نركز النظر على الوجود اليهودي في القدس، فإننا نجده مقترناً بالوجود اليهودي في فلسطين وجزءاً منه، ذلك أن القدس هي حاضرة فلسطين وتاريخها جزء من تاريخ فلسطين، واسمها ينصرف فضلاً عن المدينة المنورة إلى المنطقة المحيطة بالأسوار التي شملت دائرة واسعة من ضفتي نهر الأردن مركزها موقع المسجد الأقصى الذي جاء ذكره مع موقع المسجد الحرام في مكة في سورة الإسراء .

درج مؤرخو اليهود على أن يبدأوا التاريخ اليهودي بعبور إبراهيم عليه السلام من بلاد الرافدين إلى أرض كنعان حوالي 1850 ق.م وقد سار سيرتهم كثير من المؤرخين الغربيين في القديم والحديث، واعتبر هؤلاء محب إبراهيم وعائلته الهجرة العبرانية الأولى، ولكن إبراهيم عليه السلام جاء من أدر الكلدانية وهي عربية الأصول، وأنجب كما تروى التوراة من هاجر المصرية ابنه اسماعيل، ومن سارة قريبته ابنه اسحاق، ثم من قطورة الكنعانية ستة بنين منهم يقشان وزمران ومربان ويشق وشرخ، ويضيف مجير الدين الحنبلي صاحب الأنس الجليل في تاريخ القدس والجليل امرأة أخرى تزوجها إبراهيم  فولدت له خمسة بنين “فكان جميع أولاد إبراهيم ثلاثة عشر ولداً مع إسماعيل وإسحاق، فكان إسماعيل أكبر أولاده فآثر إسماعيل أرض الحجاز، وإسحاق أرض الشام، وتفرق سائر ولده في البلاد والله أعلم”، ولافت أن أبناء شعب فلسطين نظروا إلى إبراهيم عليه السلام واحداً من أجدادهم شأن كثير من العرب، وهي نظرة نراها عند المسعودي ومؤرخين عرباً آخرين، ويرى أحمد بشوشة أن عصر إبراهيم عليه السلام هو عصر عربي قائم بذاته سابق لعصر موسى عليه السلام الذي يعتبره مؤرخو اليهود ومن سار بسيرتهم الهجرة العبرانية الثانية، بسبعة قرون، ويلاحظ العلماء أن مؤرخي اليهود أزالوا إسماعيل وأبنائه من تاريخهم واقتصروا على إسحاق وأبنائه ثم أزالوا عيسى بن اسحاق من تاريخهم واقتصروا على يعقوب .

كانت القدس حين نزل إبراهيم عليه السلام في منطقتها مدينة كنعانية مزدهرة اسمها يبوس “وقد رحب به بنو حث واستقر به المقام في الخليل بعد أن تجول في المنطقة وزار مصر والحجاز، وبلغ الرسالة الحنيفية، ويتضح في ضوء ما سبق أنه لا مجال للحديث عن أي وجود يهودي في القدس وفلسطين في عصر إبراهيم عليه السلام لأن أبا الأنبياء لم يكن يهودياً وإنما كان حنيفاً مسلماً لله، ولم تكن اليهودية قط ظهرت بعد، وبين عصر إبراهيم وظهورها اثنا عشر قرناً على الأقل، والقدس كان كما جاء وصفها في التوراة – حزقيال 3:6- على لسان الرب (مخرجك ومولدك من أرض كنعان)”.

أبوك عموري وأمك حثية، كما يتضح أن التفسير اليهودي الصهيوني لما زعمه كتبه العهد القديم من وعد الله سبحانه إبراهيم بأن يعطي لنسله أرض كنعان “فلسطين” بأنه وعد لبني إسرائيل “يعقوب” دون غيرهم، هو دعوى لا تستقيم من وجوه عدة فنسل إبراهيم فيهم بنو إسماعيل من العرب وفيهم بنو أولاده من زوجتيه الكنعانيتين العربيتين من جهة أولاً، وإذا كان معنى النسل بالمفهوم الديني فهو يعني “اتباع” طريق إبراهيم لأن ((أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا)) كما جاء في سورة آل عمران (الآية 68) وهذا المعنى يخرج من دائرة “النسل” من تنكب طريق اتباعه إبراهيم وظلم حتى وإن كان من ذريته، كما أوضحت الآية 124 من سورة البقرة ((وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)) .
وإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه أعطوا المؤمنين في كل العصور الأسوة الحسنة حين تبرأوا ممن كفر كما جاء في الآية 4 من سورة الممتحنة ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)) وكما جاء في الآية 114 من سورة التوبة (( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه))، ناهيك عن أن وعد الله لإبراهيم عليه السلام ولكل المؤمنين في كل العصور هو أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، فهذا ما كتبه الله في الزبور من بعد الذكر، كما قررت الآية 105 في سورة الأنبياء، ((وقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي  الصالحون)) تصديقاً للعدل الإلهي، وهناك مناقشة مستفيضة للزعم اليهودي الصهيوني بشأن هذا الوعد وبشان “أرض الميعاد” تفنده، تناولتها كتب كثيرة من بينها كتاب الشيخ د. يوسف القرضاوي (القدس قضية كل مسلم) .

إن الحر على هذه الوقفة أمام الرؤية التاريخية والرؤية الدينية لعلاقة إبراهيم عليه السلام بأرض كنعان “فلسطين” وقضية “الوعد” نابع من ضرورة استحضار جوهر الإيمان الديني والحقيقة التاريخية أولاً من كون الإعلام الصهيوني دائب التأكيد على نشر التفسير اليهودي الصهيوني للوعد في أوساط الغرب بخاصة والعالم بعامة ثانياً، وقد أدى هذا الدأب إلى تأثر كثيرين من العامة والخاصة الغربيين به، ويذكر كاتب هذا الحديث كما بدا هنا التأثر قوياً عن جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة الأسبق حين التقى به في أعقاب انتهاء فترة رئاسته، وكيف وقف كارتر والدهشة تعتريه متأملاً فيما سمعه عن مفهوم “النسل” بمعنييه، وسبب ثالث للحرص على هذه الوقفة هو أن بعض من تناول هذا الموضوع في أوساطنا العربية انساق في إطار موقف رد الفعل على الزعم اليهودي الصهيوني إلى نسيان علاقة شعب فلسطين العربي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والنظر إليه وكأنه مجرد غريب وافد، وهو أمر لا تصدقه الحقيقة التاريخية ولا يقبله المؤمنون .

أول وجود واضح لبني إسرائيل في القدس، جاء بعد ظهورها بألفي سنة، حين تغلب داود عليه السلام على الكنعانيين ودخل “يبوس” وجعلها عاصمة لحكمه، حوالي 1000 قبل الميلاد، وكان اسم “إسرائيل” قد ظهر حين لقب به يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام، كما ظهر اسم “آدرم” لقباً لأخيه عيسى بن اسحق الذي أسقطه مؤرخو اليهود من تاريخهم كما سبق أن ذكرنا، وحمل أولاد يعقوب الإثنا عشر اسم “بني إسرائيل” وانتقلوا إلى مصر بعد أن بزغ نجم أحدهم يوسف عليه السلام فيها، وخرج أحفادهم من بني إسرائيل من مصر بقيادة موسى عليه السلام أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، واتجهوا لدخول أرض كنعان ونجح يوشع بن نون احتلال بعض المدن الكنعانية ومنها أريحا التي أحرقها (وكل ما بها) ولم ينجح بني إسرائيل في اعتلال مجد الكنعانية إلا بعد قرن، وإمكان لهم أن يتلغلغوا في أرض كنعان (أرض اللبن والعسل) ببطء إلى أن دخل داود القدس .

تحدث مؤرخو اليهود عن أخبار داود التي كتبوها بعد عدة قرون، فذكروا أنه بنى قصراً في عاصمة حكمه شارك في إنشائه معماريون من صور أرسمهم ملكها الكنعاني “الفينيقي” حيرام، وتحدثوا عن أخبار سليمان بن داود عليهم السلام الذي ورث أباه وحكم حوالي ثلاثين سنة (963-933 ق.م) وكيف بلغت أورشليم في عهده درجة عالية من المجد والأبهة بعد أن بنى فيها هيكلاً وتحصينات واختلطت فيما كتبوه أساطير وقصص خيالية، قد خلفه في حكم مملكة داود ابنه رحبعام الذي كان فتى في السادسة عشرة من عمره متهوراً قاسياً، فكان أن رفضت عشر قبائل من بني إسرائيل الاعتراف به وشكلت مملكة إسرائيل في الجزء الشمالي من المملكة وشكلت القبيلتان الباقيتان مملكة يهودا التي بقيت أورشليم عاصمة لها .

وجاءت نهاية الأولى على يد سرحون الثاني ملك أشور عام 722 ق.م ونهاية الأخرى على يد نبوخذ نصر ملك بابل الكلداني عام 586ق.م وكانت المملكتان منذ نشأتا واقعتين تحت نفوذ فراعنة مصر حيث قام شينشق بغزوهما حوالي 120 سنة .

استمرت القدس طوال الفترة بين حكم داود عليه السلام لها وتخريبها على يد نبوخذ نصر، مدينة كنعانية الطابع والحضارة، وقد أخذ بنو إسرائيل هذه الحضارة فتعلموا من الكنعانيين الزراعة، واقتبسوا طقوس الكنعانيين وفنهم وعاداتهم بعد أن تزاوجوا معهم وتأثروا بلغتهم، وبعث الله في بني إسرائيل أنبياء وبرز فيهم معلمون دينيون أسهموا في ازدهار الحياة الروحية، وجاء تسجيل تاريخ هؤلاء وهؤلاء في أسفار العهد القديم وشروحه ليحفظ أثراً أدبياً توارثته الأجيال وقد شارك في تسجيله عبر قرون مؤرخون ومعلمون، ومرت مادته بأطوار شهدت كثيراً من الانتقاء والحذف والتحقيق والضبط قبل أن تتخذ شكلها النهائي، كما يلاحظ علماء التاريخ، وبعد التوراة جاء تأليف التلمود، ومعناه دراسة أو عقيدة، ليشرح الشرائع وقد كتب جزءاً منه بالآرية، لغة الآرايين الذين هاجروا من شبه جزيرة العرب إلى أرض كنعان في هجرة تزامنت مع ظهور بني إسرائيل، حاذين حذو الكنعانيين والعموريين من قبل .

جاء تخريب نبوخذ نصر القدس عام 586ق.م ليقضي على وجود بني إسرائيل فيها، حيث تعرضوا للسبي البابلي وحين سقطت بابل في أيدي الفرس بقيادة قروش عام 538 ق.م أصبحت أرض كنعان “فلسطين” جزءاً من إمبراطوريتهم التي امتدت من مصر وآسيا الصغرى إلى البنجاب في الهند، ودخلت فلسطين بعد تنظيم الإمبراطور دارا 526 –486 ق.م للإمبراطورية في المقاطعة الخامسة مع سوريا وقبرص، مرزبانة عبر نهرا أي عبر نهر الفرات، وتمتعت بحكم ذاتي ساعد على الاستقرار فيها فعادت المدن الكنعانية ومنها القدس إلى الازدهار وأخذت مكانها مراكز للتجارة العالمية القائمة آنذاك، بدأ الوجود اليهودي في القدس باسم اليهود، حين أصدر الإمبراطور الفارسي قورش مرسوماً بعد دخوله القدس يسمح لبني إسرائيل الموجودين في بابل بالعودة إلى فلسطين، فكان أن عاد من حمل اسم “يهود” فيما بعد وقدر مؤرخو اليهود عددهم باثنين وأربعين ألفاً من بين ثمانية وخمسين ألف “يهودي” وكان زعيم العائدين زروبابل من سلالة أحد ملوك “يهود” فاعترفت به جماعته حاكماً عليهم، وقد أعاد هؤلاء بناء الهيكل في عهد الإمبراطور دارا سنة 515ق.م على نفقة الدولة بعد صعوبات، وبعد نصف قرن عاد فريقان آخران من سبي بني إسرائيل أحدهما برئاسة نحميا والآخر برئاسة عزرا، وتبنيا برنامجاً عنصرياً تضمن وجوب طلاق الزوجات غير اليهوديات وإعلان أبنائهن غير شرعيين، وأدخلاه العقيدة الدينية اليهودية وقد حلت اللغة الآرامية محل اللغة العبرية في تعامل هؤلاء اليهود اليومي، وبقيت الآخرى مستخدمة في العبادة .

نتتبع تاريخ هذا الوجود اليهودي في فلسطين بعامة وفي القدس بخاصة منذ حمل بنو إسرائيل العائدون من السبي في بابل إلى كنعان اسم اليهود حتى بروز الصهيونية السياسية في القرن التاسع عشر الميلادي، فتناوله في ثلاث مراحل يفصل بينها ويصل في ظهور المسيحية ثم ظهور الإسلام .

استمرت المرحلة الأولى خمس قرون ونيف – وتتابع على حكم فلسطين فيها الفرس حتى عام 333ق.م فالإغريق اليونانيون حتى عام 64 ق.م فالرومان وكان الكنعانيون ومن خلفهم من العموريين والآرابين، هم غالبية سكان فلسطين في هذه المرحلة، وقد بدأت أسفار العهد القديم تطلق على سكان فلسطين في هذه المرحلة وقد بدأت أسفار العهد القديم تطلق على سكان الجنوب والساحل اسم “العرب” وتابع هؤلاء العيش في ظل حضارتهم الكنعانية والتفاعل مع حضارات حكامهم، وكانت لهم ديانتهم الكنعانية، وجاء اليهود ليعيشوا إلى جوارهم ويأخذوا من حضارتهم .

حفلت هذه المرحلة بأحداث نشير من بينها إ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات