عاجل

الأربعاء 24/أبريل/2024

من يفاوض من . . وعلى ماذا؟

من يفاوض من . . وعلى ماذا؟

حينما يمتدح عربي أرئيل شارون فلا بد أن يثير ذلك استنكارنا واستياءنا، وإذا ما امتدحه فلسطيني فإن ذلك يفاجئنا ويصدمنا، أما إذا جاء المديح على لسان مسؤول في منظمة “التحرير” فإن الصدمة تصبح كارثة، وتستلزم منا قدراً عالياً من الانتباه .

هذا الافتراض الثالث، الأسوأ وقع للأسف الشديد، حتى قرأنا للسيد محمود عباس تصريحات قال فيها: إن شارون تغير، ولم يعد ذل الرجل الذي عرفناه في صبرا وشاتيلا “الاسم لمخيم اللاجئين الفلسطينيين في بيروت” الذي شهد مذبحة كان شارون مهندساً بعد غزوه لبنان عام 1982، وأضاف أن الرجل عادي وخارج المفاوضات يصبح أقرب إلى الفلاح منه إلى العسكري ثم أن في مفاوضات واشنطن “عبر عن تقديره للإنسان الفلسطيني” .

الكلام صدر على لسان “أبو مازن” الذي هو أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وإذا لم تصدق فعد إلى صحيفة “الشرق الأوسط” العدد الصادر في 10/11، وافتح الصفحة الثالثة، ثم طل على العمودين الثالث والرابع، فستجد هذه العبارات بالكلمات التي أوردتها، وإذا تمسكت بعدم التصديق حتى بعد القراءة، فتابع الأعداد اللاحقة من الصحيفة، وأبحث عن تكذيب لهذا الكلام فلن تجد، وهذا ما فعلته، حين لم أصدق عيني وظللت حتى صبيحة الأحد 22/11، أفتش في الصحيفة كل صباح عن التكذيب الذي سيصدر عن “أبو مازن” فلم أعثر على شيء ولا أخفي أن أملي تبدد في صدور ذلك التصريح منذ يوم 18/11 حين طالعت في صحف صبيحة ذلك اليوم صورة جمعت بين الرجلين، المادح والممدوح، كان أبرز ما فيها أنهما ظهرا متصافحين ومبتسمين وفي مشهد من الصفاء والود، يجعل الدم يغلي في العروق، وهي الصورة التي زفت إلينا نبأ بدء مفاوضات الحل النهائي هذا الأسبوع .

قاتل محترف من البداية:

أرئيل شارون في الذاكرة العربية عامة والفلسطينية خاصة، شخص آخر غير الذي تحدث عنه السيد أبو مازن إنه رغم أنه شارك مع العصابات الصهيونية التي كسبت اغتصاب الأرض في عام 48 إلا أننا نعرفه منذ شكل وحدة الكوماندوز 101 في سنة 53، التي كانت في الحقيقة وحدة للقتل، ومن جرائمها في ذلك الوقت مذبحة كفر قاسم التي قتل فيها 48 فلاحاً فلسطينياً، وبعد أن أثبت الرجل جدارته كقاتل أصبح مؤهلاً لكي يتولى قيادة لواء المظلات في حرب 56، وفي ذروة حرب الاستنزاف في سنة 70 عين قائداً للمنطقة العسكرية الجنوبية، ولأن غزة كانت آنذاك تحت قيادته، فإنه قام بدور في تصفية المقاومة هناك، بعدما شكل وحدة للقتل عرفت باسم “ريمون” ونفذ هناك مشروعه لاقتلاع اللاجئين، وإعادة إسكانهم نقل مجموعات منهم إلى رفح، وكان أول من أقام شوارع “أوتوسترادات” داخل المخيمات، الأمر الذي استدعى نقل كثيرين من أماكن سكناهم، وأدى إلى إعادة هيكلة معالم المخيمات، وهي الخلفية التي أكسبته خبرة في تدمير البنية التحتية الفلسطينية. استفاد منها فيما بعد .

بعد أن اكتسب في غزة بجدارة صفته كقاتل، وجدناه في حرب 73 وفي عملية الثغرة، يكتسب صفة المغامر، وحين أصبح وزيراً للزراعة في حكومة مناحيم بيغن عام 77، ألقى بكل ثقله في عملية الاستيطان لكي يبلغ بالمغامرة أقصى لها، ويوظفها في خدمة التمدد الإسرائيلي أفقياً ورأسياً .

في اجتياح لبنان عام 82 كان شارون المغامر والقاتل هناك، فقد قاد أول عملية إسرائيلية لاحتلال عاصمة عربية، ونفذ هناك أكبر مذبحة إسرائيلية خارج فلسطين في “صبرا وشاتيلا” والجريمة الأخيرة أدانته فيها لجنة “كاهان” الأمر الذي اضطره إلى الاستقالة من منصب وزير الدفاع .

ابتداء من عام 90 عاد شارون إلى الواجهة كمهندس لحركة الاستيطان واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم مرة باعتباره وزيراً للبناء والإسكان ومرة بحسبانه وزيراً للبنية التحتية، ولم يتخل عن دور القاتل في أي منها حتى أعلن صراحة بعد فشل محاولة اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إن إسرائيل لن تكف عن محاولة قتله، وهو الذي لا يزال يرفض مصافحة الرئيس ياسر عرفات بحجة أنه إرهابي قاتل .

قبل أيام قليلة من ظهوره مبتسماً يطفح رضى وحبوراً وهو يصافح أبو مازن، كانت وكالات الأنباء قد نقلت حديثه إلى الإسرائيليين الذي طالبهم فيه بالتحرك والركض للاستيلاء على المزيد من الأراضي والمسارعة إلى بناء المزيد من المستعمرات وانتزاع كل ما يستطيعون انتزاعه من تراب الضفة حتى لا يقع في أيدي الفلسطينيين .

غسيل الأشخاص بعد الأفكار:

حينما طالع المرء هذا السجل، الذي لا يفصل في التعريف بالرجل وإنما يوجز بعض عناوين مسيرته، ثم يقارنه بما قاله عنه السيد أبو مازن فربما خطر على باله لأول وهلة مدفوعاً بالرغبة في عدم التصديق أن المسؤول الفلسطيني أخطأ في الاسم، وكان يقصد “شاروناً” آخر، لكنه حين يراجع النص الذي نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” سوف يجد أن أبو مازن لم يذكر الاسم فقط، وإنما تحدث عن بعض صفات وتصرفات لا تنطبق إلا على شارون إياه ما غيره، بدءاً بارتباطه بمذبحة صبرا وشاتيلا “لاحظ أن أبو مازن لم يصف ما جرى بأنه مذبحة ولكنه تجاهل هذه الخلفية من باب تخفيف إيقاع الكلمات وربما العفو عما سلف، وانتهاء برفضه مصافحة عرفات في اجتماعات واشنطن وطالما أن المسؤول الفلسطيني لم يكذب ما نسب إليه، فليس أمامنا سوى أن نتعامل مع المشهد باعتباره حقيقة وليس خيالاً أو وهماً فالكلام صدر إذن عن “أبو مازن” والمقصود به هو السيد شارون الذي صنع “مجده” في إسرائيل لا لشيء إلا أنه أقام حمام الدم للفلسطينيين في غزة، ووقف فوق تل من جثثهم وجماجمهم في لبنان، وحصد أكبر عدد من النقاط في سباق اقتلاعهم والاستيلاء على أرضهم في الضفة والقطاع .

بعد إدراكنا لذلك كله، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا تجاهل أبو مازن ذلك السجل المجلل بالدم والمسكون بالكراهية والبغض، وحرص على أن “يبيع” لنا شارون “الطيب” الذي تغير، حتى أصبح يعبر عن تقديره للإنسان الفلسطيني وهي المقولة التي لم يبلغ شارون ما بلغه في إسرائيل إلا لأنه أثبت للجميع نقيضها تماماً، بل أرغم أن خصوم الرجل في بلاده يمكن أن يتصيدوا تلك العبارة لتوظيفها في القضاء على مستقبله السياسي، وهو الذي يكن له كثيرون ضغائن عدة، بسبب اندفاعه وقذارته وسلاطة لسانه وهي الصفات التي لم تبق له على صديق .

لماذا يجمل أبو مازن أرئيل شارون؟ قبل الاجتهاد في الإجابة لا مفر من الاعتراف بأننا بصدد حالة فريدة تعد نموذجاً لما قد نطلق عليه “غسيل الأشخاص” وذلك أننا كنا قد عرفنا الكثير من محاولات غسيل أعمال المخدرات القذرة، عبر تسريبها إلى حسابات البنوك والأسواق، و”تطهيرها” من خلال ذلك عبر دفاتر الحسابات، وفي السنوات الأخيرة التي شهدت محاولة محو الذاكرة وطي صفحات الصراع العربي الإسرائيلي وفرض حلول القضية شهدنا محاولة جديدة لغسيل الأفكار، استهدفت تارة تبرير الانصياع للإرادة الأمريكية والإسرائيلية باسم “الخيار الاستراتيجي للسلام”، وتارة أخرى شوهدت المقاومة واعتبرتها معوقة لمسيرة السلام، ومن ثم دمغتها بصفة الإرهاب، وفي تارة ثالثة حاول البعض بيع حركات السلام الصهيونية لنا، وإقناعنا بأنهم يقفون في الصف العربي وإلى جانب الدفاع عن الحقوق المهدورة .

بعد غسيل الأفكار يبدو أننا دخلنا مرحلة جديدة لغسيل الأشخاص “هل كلمة الأشرار أوفق وأليق في الوزن؟” إن شئت الدقة فقل إن هدف الغسيل هو إزالة آثار الدم العالقة بأيدي الزعماء الإسرائيليين، بحيث يبدون أمام ناظرينا أبرياء وطيبين وأكثر بياضاً .

وحدث ذلك مع رابين وبيريز اللذين تحولا إلى صناع السلام، ونسى الجميع أن الأول هو الذي دعا إلى تكسير عظام الفلسطينيين والثاني هو المتهم الأول في مذبحة “قانا” والاثنان من مجرمي الحرب بامتياز، والحاصل مع شارون شيء من هذا القبيل، حيث الكلام الذي قرأناه على لسان “أبو مازن” لا يدعو أن يكون محاولة لغسيل سجل الرجل لكي يصبح بدوره أكثر براءة وبياضاً .

موقف ليس جديداً لماذا فعلها أبو مازن؟

الذين يعرفونه من قادة حركة فتح يقولون إن كلامه عن شارون ليس مفاجئاً، وزملاؤه الذين رافقوه، وقد تحدثت إلى بعضهم. يذهبون إلى أن له موقفاً مبكراً من مجمل الصراع العربي الإسرائيلي، يفسر الكثير من أقواله وأفعاله، هم يذكرون أن أسرته نزحت بعد النكبة في عام 48 من مدينة “صفد” ولجأت إلى دمشق، وعانت مع من عانوا شظف العيش والفاقة، حتى أن أباه لم يجد شيئاً يفعله سوى أن يبيع “التين” في العاصمة السورية، وبسبب ظروفه تلك فإن محمود عباس ما أن حصل على الثانوية العامة حتى اشتغل بالتدريس، وتوسط له أحد قادة فتح حتى وجدوا له عملاً في قطر، وهناك اتصل بجهات عدة، والتحق بالدراسة في كلية الحقوق، ثمة لغط حول الجهات التي اتصل بها وهو في قطر، وتظل تلك المرحلة محاطة بعلامات استفهام لا مجال للخوض فيها الآن .

في عام 59 ظهرت حركة “فتح” فانضم إليها، وبعد فترة أصبح مسؤولاً عن المال فيها، ومن موقعه ذلك أصبح مؤثراً، وله مجموعته الضيقة، وعرف عنه أنه رجل غامض غير منفتح على الآخرين، لا يجهر بآرائه وإنما له دائماً “أجنده” خاصة غير معلنة .

وفي أوائل الستينات بدأ يتحدث إلى مجموعته الخاصة عن أن العرب لن يفعلوا شيئاً لفلسطين والفلسطينيين وأن الارتباط بالمصير والتوجه العربيين لا طائل من ورائه، وأن قدر الفلسطينيين أن يتعايشوا مع الإسرائيليين الذين أصبحوا جيراناً لهم بحكم الأمر الواقع، والذين أصبحوا الأقوى والأكثر تقدماً مع العرب، هذا الكلام الذي نقل عنه همساً في بداية الستينات، وأصبح يردده على نطاق أوسع بعد هزيمة عام 67، وعرف كثيرون عنه منذ ذلك الحين أنه من دعاة الاعتراف بإسرائيل وربط المصير الفلسطيني بها، مع عدم التعويل على الارتباط بالعالم العربي .

يضيف القريبون من دائرة القرار في “فتح” أن “أبو مازن” كان من أوائل الذين أقاموا قناة للاتصال مع الإسرائيليين، وأن ذلك الاتصال المبكر تم في عام 74، وشارك فيه اثنان على وجه التحديد، كان أبو مازن أحدهما، أما الثاني فهو عصام سرطاوي مدير مكتب المنظمة في باريس الذي قتل لاحقاً، في الأرجح بواسطة جماعة أبو نضال وبسبب اتصالاته تلك التي ذهب فيها إلى مدى بعيد بينما نجا أبو مازن وأفلت بسبب إيثاره الغموض والأجندة الخفية .

أشار أبو مازن في كتابه الطريق إلى أوسلو إلى أن الاتصالات التي شارك فيها بدأت بعد قرار المجلس الوطني الفلسطيني في عام 76 بمد الجسور على قوى السلام في إسرائيل، غير أن مصادر فتح العليمة تؤكد بأن العملية بدأت قبل ذلك التاريخ، واستمرت بعد ذلك حتى جرى ما جرى في أوسلو.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الضفة الغربية - المركز الفلسطيني للإعلام شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي - فجر الأربعاء- حملة دهم في أرجاء متفرقة من الضفة الغربية واقتحمت العديد من...