السبت 20/أبريل/2024

أبو مازن و عسكرة الانتفاضة

أبو مازن و عسكرة الانتفاضة

 يتزعم السيد محمود عباس (أبو مازن) أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير ومسؤول ملف المفاوضات في السلطة الوطنية الفلسطينية حملة ضد الانتفاضة الفلسطينية، ويطالب بوقف كل فعالياتها، لأنه يعتقد أنها انحرفت عن مسارها عندما دخلت مرحلة العسكرة، وبكلمات أخرى العمليات الاستشهادية، والهجمات المسلحة داخل ما يسمى بالخط الأخضر، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة.

السيد أبو مازن لخص موقفه السياسي والفكري هذا في محاضرة ألقاها في مدينة غزة بدعوة من ممثلي اللجان الشعبية، وكان صريحاً وواضحاً كعادته، عندما قال إن الانتفاضة دمرت بالكامل كل ما بنيناه، وكل ما بني قبل ذلك، فأصبحنا الآن دون مستوى الفقر في الضفة وغزة . وأضاف بأنها لم توقف الاستيطان لأنه تضاعف عدة مرات، ولم تسقط شارون، وطفشت الاستثمارات الوطنية والدولية، وامتدح اتفاقات أوسلو لأنها أنهت ظاهرة الفلسطيني التائه في المطارات، وأصبح في إمكان الفلسطيني العودة إلى وطنه. وأكد أن شارون سيسقط خلال ستة أشهر من العودة للمفاوضات لأنه لا يستطيع أن يقدم شيئاً للفلسطينيين.

لنأخذ هذه الأفكار ونرد عليها واحدة تلو الأخرى، دون أي انفعال، لأنه من غير المقبول أن لا يجد مثل هذا الطرح، الذي سيكون أساس المرحلة المقبلة، من يفنده ويرد عليه:

أولاً: الانتفاضة لم تأت فقط رداً على الاستيطان وتعثر المفاوضات وزيارة شارون للمسجد الأقصى، وإنما بسبب فشل فريق السلطة المفاوض في تحقيق أي تقدم حقيقي في تطبيق اتفاقات أوسلو، وما نصت عليه من انسحاب إسرائيلي من معظم المناطق المحتلة عام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة في غضون خمس سنوات.

الانتفاضة جاءت أيضاً رداً على فساد السلطة الوطنية الفلسطينية وعجزها عن إقامة دولة المؤسسات، وإرساء قواعد ديمقراطية للكيان الفلسطيني المأمول. واعترفت السلطة نفسها بهذا الفساد في تقرير رسمي لها، وأجرى المجلس التشريعي تحقيقاً وافياً في هذا الصدد وتبين هدر وسرقة أكثر من أربعمئة مليون دولار، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى شعب يعيش تحت خط الفقر، وكنا نتمنى لو أن السيد أبو مازن أجرى نقداً ذاتيا واعترف بهذه الحقائق في محاضرته تلك.

ثانياً: السيد أبو مازن كان منذ اليوم الأول ضد الانتفاضة، ناهيك عن عسكرتها، ومع الاستمرار في المفاوضات. وصرح بذلك أكثر من مرة. وهو يحاول أن يغلف موقفه الرافض لها، بالحديث عن انحرافها وسقوطها في فخ الاستفزازات الإسرائيلية. وربما يفيد تذكيره بأن الانتفاضة عندما كانت سلمية في أسابيعها الأولى تعرضت لأبشع أنواع القمع الإسرائيلية، حيث سقط أكثر من خمسمئة شهيد برصاص قوات أيهود باراك قبل أن يأتي شارون إلى السلطة، ونصف هؤلاء كانوا من الأطفال.

فالمقاتلون الفلسطينيون لجأوا إلى السلاح ومن بينهم رجال في الشرطة والأمن الوقائي، للدفاع عن أطفال شعبهم، وليس من الرجولة ولا الشهامة أن يقف هؤلاء متفرجين وشعبهم يذبح أمام أعينهم.

ثالثاً: الانتفاضة لم تسقط شارون فعلاً، ولكنها أسقطت حكومة الوحدة الوطنية، وخلقت أزمة اقتصادية طاحنة في الدولة العبرية، تطورت إلى أزمات سياسية غير مسبوقة. وأحدثت تغييرات جذرية في حزب العمل وأطاحت بقيادته المتحالفة مع الليكود، وصعدت قيادة جديدة بمفهوم جديد.

فالانتفاضة الأولى جعلت شامير يسعى لعشرة مليارات دولار ضمانات قروض من الرئيس بوش في أوائل التسعينات، والانتفاضة الثانية هي التي جعلت شارون يتسول أربعة عشر مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي من الأزمة الخانقة التي يعيشها.

رابعاً: لا نتفق مع السيد (أبو مازن) في أن ستة أشهر من المفاوضات ستسقط شارون، أولاً لأن هذا موضوع افتراضي من الصعب الجزم فيه مبكراً، ولا يعلم الغيب إلا الله، وثانياً لان خليفة شارون، مثلما تقول كل التوقعات هو بنيامين نتنياهو وهو رجل لا يحتاج إلى تعريف.

خامساً: يقول السيد أبو مازن إن الانتفاضة لم توقف الاستيطان، ويطالب بهدنة لإنقاذ قطاع غزة، ونحن نقول له أن سبع سنوات من المفاوضات التي أجراها فريقه مع نظرائهم الإسرائيليين لم ينجحوا في هذه المهمة، رغم كل التنازلات الفلسطينية المعيبة والمهينة في أوسلو وما تلاها، ومنها التنازل عن 78% من أرض فلسطين قبل الدخول في أي مفاوضات والقبول بدولة رخوية هزيلة على عشرين في المئة فقط من أرض فلسطين التاريخية.

الانتفاضة أوقفت الاستيطان فعلاً، عندما بدأ الإسرائيليون لا يهربون فقط من المستوطنات، وإنما أيضاً من تل أبيب والقدس الغربية بعد أن انعدم الأمن وباتوا يعيشون في حال من الرعب.

ويكفي تذكير السيد أبو مازن بأن برنامج زعيم حزب العمل الجديد (عمرام ميتسناع) يقول بالانسحاب دون شروط ودون اتفاق من قطاع غزة، وإزالة كل المستوطنات والمستوطنين منه، وتفكيك معظم المستوطنات في الضفة الغربية. ولا نعتقد أن هذا البرنامج الشجاع جاء بفضل مهارة المفاوضين الفلسطينيين، وإنما بفضل عسكرة الانتفاضة.

سادساً: السيد أبو مازن يقول إن الشعب الفلسطيني بات تحت خط الفقر بسبب الانتفاضة، وأنا أقول إنه متى خرج هذا الشعب إلى فوق خط الفقر. الوحيدون الذين استفادوا من اتفاق أوسلو هم موظفو السلطة والمتنعمون بفسادها، أما بقية الشعب فقد ازداد فقراً قبل الانتفاضة، لأن أوضاعه الاقتصادية تحت الاحتلال كانت أفضل كثيراً من أوضاعه بعد قدوم السلطة.

سابعاً: السيد أبو مازن يقول إن العالم اعترف بدولة فلسطينية، وهذا صحيح، وهذا الاعتراف لم يأت طوال السنوات السبع العجاف من المفاوضات في أوسلو واستكهولم وطابا، وإنما بعد العمليات الاستشهادية، والخوف من توسع ظاهرة تنظيم القاعدة وزعيمه الشيخ أسامة بن لادن ووصولها إلى فلسطين.

قرارات مجلس الأمن التي طالبت بقيام دولة فلسطينية وحديث الرئيس بوش الابن عن ضرورة قيام هذه الدولة، كلها صدرت في العامين الأخيرين، اللذين قال أبو مازن إنهما شهدا تدمير كل شيء تم بناؤه قبل وبعد أوسلو، أي بعد عسكرة الانتفاضة، وليس قبلها.

ثامناً: يقول السيد أبو مازن إن ظاهرة الفلسطيني التائه انتهت بعد أوسلو، وأصبح بمقدور أي فلسطيني العودة إلى وطنه، ولا أعرف عن أي فلسطيني يتحدث السيد أبو مازن، فهناك ستة ملايين فلسطيني في الشتات ما زالوا يعانون في المطارات، بل إن هناك فلسطينيين في لبنان والأردن وسورية ودول الخليج، محرومون من الوثائق والجوازات، وبعضهم لا يعرف نعمة السفر لضيق ذات اليد.

تاسعاً: يؤكد السيد أبو مازن أن الاستثمارات الفلسطينية والعربية هربت بفعل الانتفاضة، وهذا صحيح جزئياً، ولكن الأصح أن السبب الرئيسي لهروب الاستثمارات هو الفساد، فساد السلطة وأجهزتها، والخوات وأساليب الزعرنة التي كان يواجهها المستثمرون، واستئثار أبناء الابوات بالغالبية الساحقة من وكالات الشركات الأجنبية.

نحترم رأي السيد أبو مازن واجتهاداته، ولكننا نرى أن الزمن الجديد القادم يحتاج إلى منهج سياسي وتفاوضي جديد، يعرف كيف يوظف إنجازات هذه الانتفاضة التوظيف الصحيح الذي يخدم الشعب الفلسطيني، بحيث لا تتكرر الأخطاء التي وقعنا فيها عندما فشلنا في ترجمة إنجازات الانتفاضة الأولى بالشكل المطلوب، ووقعنا في أخطاء قاتلة ما زلنا ندفع ثمنها غالياً.

نتمنى على السيد أبو مازن وكل الذين يقفون في المعسكر المضاد لعسكرة الانتفاضة، أن يتذكروا دائماً أن هناك ثلاثة آلاف شهيد سقطوا دفاعاً عن هذا الشعب وقضيته وكرامته، وأن أي محاولة لاتهام انتفاضتهم بالخطأ أو الانحراف، هي إساءة لهؤلاء وأهدافهم النبيلة، وتجريم لعملهم الذي هو أعلى درجات الفداء والتضحية بالنفس من أجل وطنهم، ولا نعتقد أن السيد أبو مازن بالذات لا يقدر تضحيات هؤلاء، وهو الذي كان من القلائل الذين أيدوا الكفاح المسلح والعمل الفدائي في بدايات حركة فتح .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات