الخميس 25/أبريل/2024

إنجاز المقاومة وغلطها الكبير

إنجاز المقاومة وغلطها الكبير

إذا كان أكبر إنجاز للمقاومة الفلسطينية أنها نجحت في إسقاط مشروع شارون، وفي ضرب منظومة الأمن الإسرائيلي، فإن أكبر غلط تقع فيه المقاومة هو أن توقف عملياتها الآن، استجابة لوهم التأثير في نتائج الانتخابات القادمة، بحيث يخلي مجرمو الحرب الراهنون مكانهم لفريق آخر من مجرمي الحرب الجدد!

(1)

إحدى مشكلات الإعلام عندنا أنه ينقل إلينا كل يوم صورة شبه مفصلة لما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، في حين لا يتابع على نحو دقيق التفاعلات الحاصلة داخل “إسرائيل” ذاتها. أعني أننا نستشعر جيداً الوجع الفلسطيني ولكننا لا نعرف الكثير عن الوجع الإسرائيلي، باستثناء الأرقام التي تعلن ضحايا كل عملية استشهادية أو فدائية، وحتى هذه الأرقام والمعلومات تخضع للرقابة، وعادة ما تكون أقل من الحقيقة، لتخفيف حجم الصدمة داخل المجتمع الإسرائيلي. في ظل استمرار المقاومة، والعمليات الاستشهادية بوجه أخص، فإنه لا يكاد يخلو يوم من شكل من أشكال قمع الفلسطينيين وترويعهم. وخلال العشرين يوماً الأولى من الشهر الحالي (نوفمبر) ظل يقتل كل يوم فلسطينيان ويصاب 17 بجروح، فضلاً عن عمليات التهديم والقصف والتجريف والتجويع، التي لم تنج منها مدينة أو قرية في القطاع والضفة. والسعار الذي أصاب الحكومة الإسرائيلية بعد عملية القدس الأخيرة خير شاهد على ذلك.

إن شئت قل: إنه مسلسل للقتل البطيء، ينقل إلى كثيرين منا شعوراً بالإحباط واليأس، لا يخرج الناس من أجوائه ولا ينتشلهم من مستنقعه إلا أخبار العمليات الاستشهادية، التي تذكرهم بأن الله أكبر، وأن ثمة شيئا في الأمة لم يمت بعد، وإن كان الترويع الذي حل بالفلسطينيين لم ينل من إصرارهم على الخلاص ولا أطفأ في أعماقهم جذوة المقاومة.

المفارقة المثيرة واللافتة للنظر في هذا الصدد هي أن المجتمع الفلسطيني الأعزل برغم كل ما أصابه من تقتيل ودمار لم يعرف الخوف، بل يزداد صلابة وعناداً يوماً بعد يوم، كما أن العمليات التي يقوم بها الفدائيون الاستشهاديون تكشف عن درجة عالية من تراكم الخبرة ورفعة الأداء والإقدام المنقطع النظير. أما المجتمع الإسرائيلي المدجج بأحدث الأسلحة في البر والجو، والمحتمي بالقوة النووية فضلاً عن المظلة الأمريكية، فإنه هو الذي أصبح مسكوناً بالخوف، حتى ارتد إلى صدره ذلك الترويع الذي حاول قادته إشاعته بين الفلسطينيين. وذلك جوهر الفرق بين الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة.

في 18/11 نشرت صحيفة “هآرتس” أن الجيش الإسرائيلي يشهد أزمة تهرب خطيرة من الخدمة العسكرية، ازدادت بشكل حاد خلال الفترة الأخيرة مع تزايد الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وأشارت الصحيفة إلى أن عدد الفارين من الخدمة العسكرية العام الحالي (2002) وصل إلى 2616 جندياً، أغلبهم من جنود الاحتياط. وكان عدد هؤلاء العام الماضي 1564 شخصاً، الأمر الذي يعني أن ثمة ارتفاعاً في عدد الفارين من الخدمة العسكرية بنسبة 76.2%.

في 5/11 نشرت صحيفة “معاريف” مقالة كتبها (ايتان رابين) عن قرية أنشئت لعلاج الجنود الإسرائيليين الذين يتم تسريحهم من الجيش، أشار فيها إلى أن تجاربهم مع الانتفاضة صدمتهم وهزتهم حتى شوهتهم نفسياً، بحيث أن كثيرين منهم يحاولون البحث عن الهدوء والسكينة بعد تسريحهم. لذلك فإنهم يسافرون إلى الهند وتايلند وغيرهما من دول الشرق الأقصى، ولكنهم هناك يدمنون المخدرات ويعودون أشخاصا آخرين في حالة انهيار شبه تام، ولا يصلحون لشيء! تحدث الكاتب عن ضابط من المسرحين كان ضمن وحدة الأركان، وقاتل الفلسطينيين مدة عامين. وبعد انتهاء مدة خدمته سافر إلى تايلند للهروب مما حدث له، لكنه لم ينجح، واتجه إلى تعاطي المخدرات، وبعد عودته تدهور أكثر وبدأ إدمان الكوكايين، وشرع أهله في علاجه، لكنهم بعد عدة أيام وجدوه ميتاً، ولم يعرف أحد سبب وفاته. هل سمعتم عن شيء من ذلك حدث بين الفلسطينيين؟

(2)

في أوائل شهر نوفمبر الحالي أصدرت مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية تقريراً كشف النقاب عن مجموعة من المؤشرات ذات الدلالة التي برزت بعد الانتفاضة. منها على سبيل المثال أن عدد الفقراء في “إسرائيل” تجاوز بعد عام الانتفاضة الأول 1.2 مليون نسمة يمثلون 20% من السكان، بحيث أصبح الدخل السنوي للواحد منهم في حدود 356 دولاراً فقط. أضاف التقرير في هذه النقطة أن 13 ألف عائلة جديدة انضمت إلى دائرة الفقراء، بالمقارنة مع سنة 2000، ويشكل العرب 29% من أولئك الفقراء . في ذات الوقت أصدر بنك “إسرائيل” المركزي تقريراً آخر عن الوضع الاقتصادي في البلاد، ذكر أن نسبة البطالة هذا العام تجاوزت 10.5% وأنها ستتجاوز 12% السنة القادمة. ومن المعلومات المثيرة التي أوردها التقرير أن نسبة العجز في الميزان التجاري ستصل إلى 95%، وأن الاستثمارات الأجنبية ستنخفض بنسبة 6.3%، وأن مستوى المعيشة سينخفض بنسبة 2.2%. ماذا تعني هذه الأرقام؟ حين يصل عدد الإسرائيليين الذين تجاوزوا خط الفقر إلى 1.2 مليون نسمة، فمعناه أن خمس السكان مرشحون لحزم حقائبهم والرحيل عن البلاد عند أول فرصة. ذلك أن هؤلاء إذا كانوا قد جاءوا إلى ما زعموا بأنه أرض الميعاد بحثاً عن الأمن وتحت إغراء تحسين مستوى معيشتهم، وإذا كان حلم الأمن قد تبخر للأسباب المعروفة، ولحق به حلم الرخاء، فما الذي يحفزهم إلى البقاء في “إسرائيل” الآن؟! على صعيد آخر، إذا كان العجز التجاري ينشأ عن الاختلال فيما بين الصادرات والواردات، فإن ذلك العجز حين يصل إلى 95%، معناه أن الدولة الإسرائيلية لم تعد تصدر شيئاً. ولن تخطئ إذا قلت: إنها لم تعد تنتج شيئاً لكي تصدره. معناه أيضاً أن “إسرائيل” أصبحت تعتمد بشكل أكبر على الاستيراد من الخارج، مع تناقص إنتاج سلع التصدير إلى الخارج.

في الوقت ذاته فإن تراجع الاستثمارات الخارجية لا يعني سوى شيء واحد هو: فقدان الثقة بمؤسسات وأوضاع ذلك البلد المضطرب. وفي حالة “إسرائيل” فإنها كانت تتمتع بميزة الدولة الأكثر رعاية في كل الاتفاقات التي عقدتها مع مختلف دول العالم، كما أنها كانت تحظى برعاية ودعم مباشرين وغير مباشرين عن طريق استثمار مبالغ خيالية فيها، حتى أن معظم النشاطات الاقتصادية الإسرائيلية، لم تكن سوى فروع من المشروعات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، وحين تتناقص الاستثمارات الأجنبية في “إسرائيل”، فإن ذلك يعني فقد الصفات التي كانت تجعل الآخرين يتعاملون معها بأفضلية. ذلك بعض ما حدث خلال عامين للانتفاضة، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث في “إسرائيل” لو قدر للانتفاضة أن تستمر عامين قادمين أو أكثر.

(3)

أهم مما سبق أن العمليات الاستشهادية الجسور التي تلاحقت خلال الأسبوعين الماضيين في تل أبيب والخليل والقدس بعثت برسالة إلى كل مواطن إسرائيلي تبلغه بأن حياته في خطر حيثما ذهب. وإذا قال قائل: إن ذلك هو حال الفلسطينيين أيضاً فهذا صحيح، لكني أضيف أن إنجاز المقاومة الفلسطينية أنها نجحت في أن ترد الرسالة بمثلها، وأحياناً بأحسن منها. وإذا تساوى الطرفان في الشعور بالخطر فالفلسطينيون هم الفائزون، باعتبار أن وجودهم في فلسطين هو قدر وليس أمامهم بديل آخر، أما الإسرائيليون فقدومهم إلى “إسرائيل” اختيار، وأمامهم بدائل أخرى، بدليل أن آلافاً منهم حزموا حقائبهم وعادوا إلى حيث أتوا.

الضحية الحقيقية لهذا التطور هو المشروع الصهيوني ذاته، الذي ادعى رواده أن وجود اليهود فيما زعموا أنه أرض الميعاد هو ملاذهم الآمن والأخير. وإذ عاودهم الخوف في عقر دورهم التي اغتصبوها فإن فكرة “الملاذ” لم يعد لها معنى . أما ضحية الساعة إذا جاز التعبير فهو السيد أرييل شارون الذي هو الآن في النزع الأخير، ولن نستغرب إذا ما أنهت الانتفاضة حياته السياسية نهاية بائسة. وهو الذي جاء إلى السلطة على وعد بأن يقضي على الانتفاضة خلال ثلاثة أشهر، وها قد مر عشرون شهراً والانتفاضة مستمرة، وتزداد تمرساً وقوة حيناً بعد حين، وتوجه إلى الجسم الإسرائيلي ضربات موجعة كل حين.

إن عبارة فشل حكومة شارون وسياسته أصبحت قاسماً مشتركاً في كتابات العديد من الكتاب والمعلقين الإسرائيليين. وهو ما يسجله عكيفا الدار ــ مثلا ــ في هآرتس (عدد 18/11) قائلاً: عن عدد القتلى الإسرائيليين في حرب الاستنزاف الحالية (التي يشنها الفلسطينيون) ينافس في حجمه عدد قتلاهم خلال 18 عاماً من الحرب في لبنان. وقد دعا في مقالته إلى الانسحاب وراء الجدار العازل خلال عام حتى إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، وانتقد بشدة الجمهور الإسرائيلي الذي تصوت أغلبيته لصالح شارون وسياسته قائلاً: إنه لا يزال يتصرف مثل المرأة المضروبة التي تصر على العودة إلى أحضان الرجل الشرير.

عوفر شيلح من كتاب “يديعوت أحرونوت” ذهب أبعد، إذ أنه لم يتهم شارون بالفشل فحسب، وإنما شكك في قدرة الجيش (بقرتهم المقدسة!) على التصدي للمقاومة الفلسطينية، ففي أعقاب عملية الخليل (التي قام بها شباب الجهاد الإسلامي وقتل فيها 12 عسكرياً إسرائيلياً) كتب يوم 19/11 قائلاً: إذا كان ثلاثة من العرب قادرين على المس بهذه الشدة بعشرات من حملة السلاح من رجالنا، فإن ذلك يضعف ثقتنا بالقوة التي نعتمد عليها، وإذا كانوا قادرين على الانتصار في معركة صغيرة واحدة، فلعل ثقتنا بأننا سننتصر في الصراعات الكبرى تستند إلى الوهم. بعد عشرين شهراً من وعد شارون بإنهاء الانتفاضة كتب حيمي شليف في معاريف (17/11) يقول: إن الإسرائيليين جميعا أصبحوا “عالقين في زقاق الموت”. وهو ما عبر عنه أيضا ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت (18/11) الذي وصف عملية الخليل بأنها إعلان مهين عن فشل سياسة حكومة شارون، وقال:”إن الوضع قد أصبح خطيراً الآن فمن الأفضل ألا نجعله أشد خطورة من خلال نشاط حكومي (قمعي) آخر”.

(4)

 مثلما يحدث في كل ملاحم التحرير فمعركة الفلسطينيين مازالت طويلة. وكلما اشتد ساعد المقاومة ازداد الإسرائيليون شراسة، وغاية ما يمكن أن يقال في الوقت الراهن: إن شارون وأمثاله فشلوا في كسر إرادة الفلسطينيين، الذين أحرزوا نقاطاً في الجولة الراهنة تفوق ما حصله خصومهم المتعجرفون والمختالون بقوتهم. وفي هذا الصدد ينبغي ألا تفوتنا ملاحظة أنه في حين بدأت الأرض تهتز تحت أقدام شارون، ظهر في الأفق زعيم جديد لحزب العمل هو السيد عمرام متسناع الذي أطل علينا قائلاً: إنه سيسعى إلى التفاوض مع الفلسطينيين إذا تسلم الحكم، وأنه مقتنع بعدم جدوى العنف، وبضرورة إخلاء غزة من القوات والمستوطنين. لكن أغرب ما في المشهد أن ينطلي “الملعوب” على بضعنا، فيستدعوا المقولة التي عفى عليها الزمن وكذبها التاريخ. تلك التي تزعم أن حزب العمل أفضل للفلسطينيين والعرب من الليكود. وهو ما لمسناه في أمرين، الأول: تلك التصريحات والكتابات التي ظهرت مرحبة بالسيد متسناع ومحتفية بكلامه. ومن تلك التصريحات ما صدر عن الرئيس ياسر عرفات (في 20/11) حين رحب بالتعاون مع الزعيم الجديد لحزب العمل، وأعرب عن ثقته بأنه سيكم

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

مقررة أممية تدعو لفرض عقوبات على إسرائيل

مقررة أممية تدعو لفرض عقوبات على إسرائيل

عمان – المركز الفلسطيني للإعلام  أكدت مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المعنية بالأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، أن...