الجمعة 26/أبريل/2024

اتفــاق مسـتحيل

اتفــاق مسـتحيل

لا نحتاج إلى عراف أو قارئ كف لكي نقول: إن وقف إطلاق النار من جانب المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن بات من المستحيلات‏.‏ لأن ذلك الوقف إن كان بالمجان فهو يفقد المقاومة شرعيتها ويغدو بمثابة انتحار لها‏.‏ وإن كان بمقابل إسرائيلي فهو إقرار بالفشل أو الهزيمة‏.‏ وليس هناك عاقل بين قيادات المقاومة يقبل بالانتحار الطوعي‏، كما أن غرور الغلاة المستكبرين في حكومة تل أبيب لن يسمح لهم بالاعتراف بفشل الحل العسكري‏.‏

‏(1)‏

فكرة وقف إطلاق النار‏،‏ التي هي عنوان مهذب لوقف العمليات الاستشهادية،‏ تداولتها أقلام كثيرة بمناسبة الاجتماعات التي دعت إليها القاهرة‏،‏ وبدأت بحركة فتح وحماس‏،‏ ثم توالت بعد ذلك مع بقية الفصائل الفلسطينية‏،‏ وفي المقدمة منها الجهاد الاسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية‏. ‏وحسب معلوماتي فإن الفكرة لم تطرحها مصر،‏ التي استهدفت بالاجتماعات محاولة التوصل إلى توافق فلسطيني في مواجهة التحديات المحتملة في المرحلة القادمة‏،‏ خصوصاً في حالة غزو العراق وترجيح قيام الحكومة الإسرائيلية بتوجيه ضربة موجعة يراد لها أن تكون قاضية لما تبقي من الصمود الفلسطيني‏.‏

أغلب الظن أن أجواء المحادثات هي التي استدعت الفكرة‏،‏ خصوصاً أن التصريحات الرسمية لم تغلق الباب دون مناقشتها‏.‏ من ذلك مثلاً قول وزير الخارجية السيد أحمد ماهر أن وقف الانتفاضة ليس مطروحاً للبحث‏، وإنما المطروح هو استمرار المقاومة بالطريقة التي تحقق أهداف الشعب الفلسطيني،‏ حيث هناك وقت للمقاومة المسلحة،‏ ووقت آخر للمقاومة غير المسلحة‏ (الأهرام ‏12/31)‏ -من ذلك أيضاً قول السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إن موضوع الحوار في القاهرة هو كيف ندير المقاومة‏،‏ لا كيف نوقفها- ‏(‏ القدس العربي ‏12/28).‏

ولا يستبعد أن يكون للضغوط الأمريكية والأوروبية التي ما برحت تلح على وقف العمليات الاستشهادية أثرها في تسليط الأضواء بدرجة أكبر على المسألة‏.‏ كما أن الجدل الذي أثارته تصريحات السيد محمود عباس ‏(أبو مازن‏)‏ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،‏ والتي انتقد فيها ما اسماه عسكرة الانتفاضة أعطى دفعة لفكرة الوقف‏، خصوصاً أنه لم يكن الوحيد بين قيادات السلطة الذي تبني تلك الدعوة‏.‏

إلى عهد قريب جدا‏ً،‏ كانت الاتصالات المصرية مفتوحة ومستمرة مع قيادة السلطة الفلسطينية دون غيرها‏.‏ ولكن العام المنصرم شهد تطورات وتحولات استدعت توسيع دائرة الحوار وإدخال فصائل المقاومة على الخط‏.‏ من هذه العوامل أن السلطة حوصرت وشلت حركتها تقريباً،‏ وأن فصائل المقاومة أصبحت هي الحقيقة الفاعلة على الأرض‏.‏ الأمر الذي أدى إلى تغيير موازين القوى في الساحة الفلسطينية‏.‏

من العوامل أيضاً أن الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لإقصاء الرئيس عرفات لم تتوقف،‏ حتى لم يعد من اليسير تجاهلها‏.‏ وقد أدركت بعض عناصر السلطة ذلك‏،‏ فأخذت المسألة على محمل الجد‏،‏ وبدأت في التحضير -والترشيح أيضاً- لمرحلة ما بعد عرفات وهو ما كانت له أصداؤه في بعض العواصم العربية،‏ وذلك تحول آخر لم يكن ممكناً تجاهله‏.‏ إلى جانب هذا وذاك فإن اقتراب الموعد المفترض لتوجيه ضربة عسكرية أمريكية للعراق، الذي تتمناه “إسرائيل” وتستعجله لأسباب ليست خافية‏،‏ من شأنه أن يضيف متغيراً جديداً في المعادلة كان من الضروري التحسب له‏.‏ وإذ راهن البعض على احتمال فوز حزب العمل في الانتخابات الإسرائيلية المقرر إجراؤها في نهاية الشهر الحالي‏.‏ إلا أن ذلك الاحتمال لم يعد قائماً في ظل التأييد واسع النطاق الذي يحظى به شارون والليكود وتجمع عليه استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي،‏ ناهيك عن أن التجربة أثبتت أن مثل هذه المراهنة أصبحت عقيمة ولا طائل من ورائها‏.‏

ولأن ما يجري في الأرض المحتلة ليس شأناً فلسطينياً فحسب‏،‏ ولكنه أيضاً أمر وثيق الصلة بحسابات الأمن القومي المصري‏،‏ فقد كان من الضروري تطوير الموقف المصري بما يتجاوب مع المتغيرات التي طرأت على المعادلة‏.‏ من ثم فإلى جانب خط الاتصال المفتوح بين القاهرة والمقاطعة حيث توجد قيادة السلطة في رام الله‏،‏ جرى مد خط آخر بين القاهرة ودمشق‏، حيث توجد قيادات فصائل المقاومة‏.‏ وقبل أن تجري مشاورات بلورة الموقف مع تلك الفصائل، تدخلت القاهرة في شهر أكتوبر الماضي لفض الاشتباك الذي وقع في غزة بين عناصر منظمتي فتح وحماس‏،‏ حيت قتل أحد المنسوبين إلى حركة حماس ضابط شرطة‏ (‏العقيد راجح أبو لحية‏)‏ أخذاً بثأر شقيق له قتلته الشرطة أثناء مظاهرة احتجاجية قام بها طلاب الجامعة الإسلامية في غزة‏، ‏وكان العقيد أبو لحية هو من أمر بإطلاق النار على الطلاب‏.‏

النجاح الذي تحقق آنذاك مهد الطريق لتوسيع نطاق التشاور حول أمور أخرى، ‏ولأجل ذلك دعي السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى القاهرة في زيارتين لم يعلن عنهما لأسباب أمنية،‏ وهو الذي تعرض لثلاث محاولات اغتيال من جانب “إسرائيل‏”،‏ إحداها في عمان،‏و الثانية والثالثة في قطر‏.‏ وفي حدود علمي فإن بعض الأفكار التي تم تداولها في تلك المشاورات ناقشها مسئول رفيع المستوي مع رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون‏،‏ وكانت استجابته سلبية لها‏.‏

 

‏(2)‏

مشاورات القاهرة لم تكن الوحيدة بين فصائل المقاومة الفلسطينية‏،‏ وإنما كانت هناك مشاورات أخرى موازية في غزة ودمشق‏. ‏وكان توافق الفصائل الأربع المقاتلة على الأرض ‏(‏فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية‏)‏ قد انعقد حول أربع نقاط هي‏:‏

‏*‏ إن الانتفاضة ينبغي أن تستمر،‏ باعتبارها خياراً وحيداً بعدما فشلت جميع جهود الحل السلمي‏،‏ وألغت الحكومة الإسرائيلية كل الاتفاقات التي وقعت بين الطرفين‏.‏

‏*‏ إن المقاومة لا تستطيع أن توقف اشتباكها المسلح وخصوصاً العمليات الاستشهادية إلا فيما وراء الخط الاخضر ‏(‏في العمق الإسرائيلي‏)، ولا تستطيع بأي حال أن توقف عملياتها في الأراضي المحتلة في عام‏67،‏ ليس فقط لأن هذا حقها المشروع طبقاً لميثاق الأمم المتحدة‏،‏ ولكن أيضاً لأنها إن فعلت ذلك ستلغي مبرر وجودها‏،‏ وسيظهر هناك آخرون يواصلون مسيرة المقاومة المسلحة‏.‏

‏*‏ إن قبول فصائل المقاومة بذلك الايقاف في داخل “إسرائيل” مشروط بتوقف الجيش الإسرائيلي عن شن غاراته ومواصلة اجتياحه لمدن وقرى الضفة والقطاع وقبوله بالبدء في الانسحاب من تلك الأراضي إلى ما وراء حدود سبتمبر عام ‏2000.‏ في هذه الحالة فإن حركة حماس والجهاد لن تقفا ضد مساعي إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت في عام‏67.‏ وكانت منظمة فتح وحدها هي التي أيدت تلك الخطوة‏.‏

الاعتراض الأكبر على ذلك التصور يأتي من جانب “إسرائيل”‏.‏ التي رفض رئيس وزرائها في الاتصالات التمهيدية أن يقدم تعهداً بوقف الغارات أو ترتيب الانسحاب‏،‏ وغاية ما قاله إن الفصائل التي ستتفق على وقف عملياتها لن تستهدف القوات الإسرئيلية عناصرها‏،‏ ويمكن أن نعد بعدم المساس بهم‏.‏ وهو منطق انتهازي وخبيث‏، أراد به مجرد تأمين الأفراد مع استمرار استباحة الأرض ومواصلة قهر الشعب الفلسطيني‏.‏

تقدير خالد مشعل أن شارون اتخذ هذا الموقف لأنه لايزال يعول على الحل العسكري،‏ فضلاً عن أن معطيات الوضع العربي الراهن لا تشكل ضغطاً عليه يضطره لأن يدفع ثمن لقاء وقف العمليات الاستشهادية‏.‏ ثم إنه يتصور أن “إسرائيل” ستكون في وضع أفضل وأقوى -وسيكون العرب والفلسطينيون في وضع أضعف- إذا ما نجحت الضربة الأمريكية للعراق‏.‏ ومراهنته على ذلك الاحتمال تدفعه إلى مزيد من التشدد في موقفه‏،‏ وليس إلى مراجعة الموقف وتقديم مقابل للفلسطينيين‏.‏ يعزز ذلك التشدد ثقته في تأييد الإدارة الامريكية له واطمئنانه إلى أن ملف القضية في البيت الأبيض بأيد صهيونية أمينة‏،‏ سواء بسبب قوة التيار الموالي لإسرائيل في فريق الرئيس بوش‏،‏ أو لأن الملف سلم مؤخراً إلى رجل من غلاة المتعصبين لإسرائيل‏،‏ هو ايليوت ابرامز‏،‏ الذي أصبح المستشار الخاص للرئيس الأمريكي لشئون الشرق الأوسط‏.‏

 

‏(3)‏

هذا الانسداد البادي في الأفق أصاب البعض بالاحباط‏،‏ ودفعهم إلى تأييد وجهة النظر الداعية إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه‏،‏ عن طريق الوقف غير المشروط للعمليات الاستشهادية ويدعم هؤلاء موقفهم بالحجج التالية‏:‏

‏*‏ إن ميزان القوة العسكري والسياسي هو في مصلحة “إسرائيل” بامتياز‏.‏

‏*‏ إن رئيس الحكومة الإسرائيلية سوف ينتهز فرصة انشغال العالم بمتابعة ما يجري في العراق‏، لكي يفترس الفلسطينيين ويحيل الأرض المحتلة إلى بركة من الدماء‏.‏

‏*‏ إن الوضع العربي العام أعجز من أن يقدم شيئاً يساعد به الفلسطينيين على الصمود أو المقاومة‏.‏

‏*‏ إن الرأي العام العالمي مجمع على استهجان العمليات الاستشهادية التي أصبحت ذريعة لاتهام المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ‏الأمر الذي أفقد القضية تعاطفاً هي بحاجة ماسة إليه‏.‏

لقيت في إحدى الدول الخليجية قبل عدة أيام عدداً من القياديين في حماس،‏ كان اثنان منهم قادمين للتو من أحد اجتماعات القاهرة‏،‏ وحيث تطرق الحديث إلى حجج دعاة الوقف غير المشروط‏،‏ كان ردهم كما يلي‏:‏

‏*‏ من البداية تدرك المقاومة أن الاستقلال له ثمنه الباهظ وأن الميزان العسكري لمصلحة “إسرائيل‏”، والحاصل في فلسطين ليس استثناء‏.‏ ففي كل معارك التحرير كان الميزان العسكري في مصلحة القوة الغاصبة والمحتلة‏،‏ في الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا‏.‏

ومع ذلك فإن الطرف الأضعف عسكرياً هو الذي حقق النصر في النهاية‏.‏ لأن القدرة العسكرية لا تعني بالضرورة احتكار القوة‏.‏ وللفلسطينيين نقاط قوتهم المتزايدة التي لا ينبغي تجاهلها‏،‏ والتي سببت إزعاجاً شديداً لإسرائيل‏،‏ وما الإلحاح المستمر على وقف العمليات الاستشهادية إلا دليل على أنها سددت لها ضربات أوجعتها‏.‏ وإذا كان الشعب الفلسطيني وحده هو الذي يدفع الثمن‏،‏ وهو لم يضق بذلك أو يتبرم‏.‏ فلماذا يتطوع الآخرون ويطالبونهم بوقف الثمن الذي يسددونه من دمائهم وأرواح أبنائهم‏.‏

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الضفة الغربية - المركز الفلسطيني للإعلام اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني - فجر الجمعة- عددًا من المواطنين خلال حملة دهم نفذتها في أرجاء متفرقة من...