الثلاثاء 16/أبريل/2024

الاحتلال أعلى درجات العنف

الاحتلال أعلى درجات العنف
لأن الشيطان يكمن في التفاصيل فأخشى ما أخشاه أن يكون مصطلح وقف العنف بصيغته الفضفاضة التي يسوقها الخطاب السياسي والإعلامي‏‏ مسكونا بشيء من ذلك القبيل‏‏ لذلك فمن المهم للغاية أن نتفق من البداية على مضمون المصطلح‏‏ بحيث نفرق بين ما كان منه عدوانا علي الحق وبين ما كان ضروريا ومفروضا للدفاع عن الحق والأول هو الذي يستحق منا الإنكار بامتياز حيث يتربع الاحتلال علي قمته بحسبانه أعلي درجات العنف‏.‏

 


‏(1)‏

خشيتنا هذه وتوجسنا لا ينطلقان من فراغ فلكثرة تعاملنا مع المصطلحات المفخخة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب‏‏ ولطول عهدنا بالمظلومية‏‏ فقد أصبحنا نتطير من مفردات اللغة المستخدمة دوليا في شأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏‏ خصوصا إذا كان المتحدث ناطقا باسم الإدارة الأمريكية‏‏ وبرغم أن لدينا رصيدا كافيا من الخبرة التاريخية يبرر ذلك الارتياب‏‏ فإن الأمريكيين يأبون إلا أن يزودونا بين الحين والآخر بمزيد من الأسباب التي تؤيد هواجسنا وتحول الشك فيها إلي يقين‏‏ وحين يكون الرئيس الأمريكي الذي يدعو إلي وقف العنف الآن هو ذاته الذي وصف شارون بأنه رجل سلام‏‏ مزايدا في ذلك على “الإسرائيليين” أنفسهم‏‏ الذين صوتوا للرجل أساسا لأنهم يعرفونه رجل قمع وسحق وإرهاب‏‏ وليس لأنه رجل سلام‏‏ حينما يحدث ذلك فهل ينتظر منا أن نفترض البراءة في دعوته‏‏ أم أن ذلك يقطع بأن الشيطان كامن في ثناياها‏‏ بل قابع تحت كل حرف من حروفها؟

مثل ذلك الشك لابد أن يتلبسنا حين نقرأ أيضا ذلك الإلحاح شبه اليومي علي فكرة إصلاح السلطة الفلسطينية‏‏ وهو العنوان البريء الذي قد لا يختلف عليه أحد‏‏ بل هو مطلب فلسطيني قديم نسبيا دعا إليه مختلف العناصر الوطنية‏‏ وقدمت بشأنه مذكرات عدة ومورست لأجله ضغوط من جانب فصائل النضال الفلسطيني‏‏ إذ من حقنا أن نفتش في ثنايا الدعوة بحثا عن الشيطان فيها منطلقين من أننا لم نلمس يوما أن الإدارة الأمريكية كانت غيورة علي صلاح أمر السلطة‏‏ ومستغربين مثل هذه الغيرة المفاجئة‏‏ في حين تلتزم الولايات المتحدة الصمت‏‏ وأحيانا ترحب وترعي‏‏ أوضاعا أخري ظاهرة الفساد في المنطقة‏.‏

ونحن نفتش سوف يستوقفنا لا ريب ذلك الخبر الذي سربته صحيفة هاآرتس العبرية في 12/5  ‏ وذكرت فيه أن رئيس المخابرات المركزية الأمريكية جورج تينت هو أحد المسئولين الأمريكيين المعنيين بذلك الإصلاح المنشود‏‏ وإنه في زيارته المرتقبة للمنطقة سيأتي وفي جعبته‏70‏ مليون دولار اعتمدت لذلك الغرض‏‏ وهي إشارة تفتح الشهية لمعرفة المزيد من التفاصيل‏‏ لكنها تظل دالة علي بعض مكامن الشيطان في دعوة الإصلاح ومراميها‏.‏

‏(2)‏
 

العنف في لسان العرب هو الأخذ بالشدة وفي السياق الذي نحن بصدده يغدو المصطلح وصفا سياسيا وليس قانونيا‏‏ وهو وصف حمال أوجه‏‏ لأن العنف قد يكون سلبيا وقد يكون إيجابيا‏ فالقاتل يستخدم العنف لتحقيق هدف شرير‏‏ والدولة قد تنفذ بحقه حكم الإعدام عقابا له علي جريمته‏‏ وهي في ذلك تستخدم العنف للقصاص للمقتول والدفاع عن حق المجتمع‏‏ والأول عنف سلبي‏‏ والثاني عنف إيجابي‏.‏
وعند المنصفين من أهل النظر‏‏ فإن العنف المستنكر والمنهي عنه‏‏ هو ذلك الذي يعد عدوانا علي الحق‏‏ ولذلك فإن السياق الذي نتحدث عنه يتعامل مع مصطلح العنف ليس بالمطلق‏‏ ولكن بما يمثله من عدوان علي الآخرين‏‏ الأمر الذي يجعل من الاحتلال أعلي درجات العنف‏‏ وحين يكون ذلك الاحتلال استيطانيا فإن العنف فيه يتضاعف‏‏ ومن ثم يصبح التجريم في حقه أشد وأقوي ـ لماذا؟

لان العنف العادي بمفهومه العدواني يتعرض له أفراد أو مجموعة منهم في أشخاصهم أو أموالهم‏.‏ أما الاحتلال فهو يمثل عدوانا شاملا علي شعب بأكمله بل علي وطن بأكمله‏‏ بناسه وأرضه وسمائه وهوائه ومياهه‏.‏
هو استباحة كاملة لذلك الوطن‏‏ تذهب بالعدوان إلي حدوده القصوى.‏

الاستيطان قد يكون مقدمة للاحتلال كما فعل البيض مع الهنود الحمر في الولايات المتحدة وقد يكون من نتائجه كما فعل الإسرائيليون في الضفة الغربية وغزة وهو في هذا وذاك إما مقدمة للعدوان أو فرع عنه‏‏ وفي الحالتين فإنه يصم الاحتلال بالفجور‏‏ من حيث انه لا يكتفي باستباحة الوطن وإنما يذهب إلي حد محاولة اقتلاع أهله من دورهم‏‏ والاستيلاء علي تلك الدور أو هدمها وإعادة بنائها لاستيعاب وافدين جدد من جنس المحتل‏‏ من خارج الحدود‏.‏

مثل هذا الاقتلاع يعد من أفعال جرائم الحرب من الناحية القانونية‏‏ وهو ما أثبته النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتبرت مادته الثامنة المتعلقة بالانتهاكات التي تعد من جرائم الحرب‏‏ أن من بين تلك الجرائم قيام دولة الاحتلال علي نحو مباشر أو غير مباشر‏‏ بنقل بعض من سكانها المدنيين إلي الأرض التي تحتلها‏‏ أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو بعض منهم داخل هذه الأرض أو خارجيا‏.‏

ذلك شأن الاستيطان الذي في الحالة “الإسرائيلية” فرع عن الاحتلال فما بالك بالاحتلال ذاته؟

ألقيت السؤال علي الدكتور فؤاد رياض من شيوخ القانون الدولي الذي كان أحد قضاة محكمة مجرمي الحرب اليوجوسلافية درس لي في حقوق القاهرة قبل أربعة عقود فأيد ما ذهبت إليه‏‏ وقال إن الاحتلال بما يمثله من عدوان ينبغي أن يدرج علي رأس قائمة العنف‏‏ وهو بهذه الصفة جريمة مستمرة تختص بالنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية‏‏ إذ في المادة الخامسة من نظامها الأساسي نص صريح علي أن اختصاص المحكمة يشمل أربعة أنواع من الجرائم‏‏ العدوان أحدها‏‏ والثلاثة الآخرون كالتالي‏:‏ جريمة الإبادة الجماعية‏‏ الجرائم الإنسانية‏‏ جرائم الحرب‏.‏

‏(3)‏

إذا كان ذلك كلام القانون‏‏ فللسياسة كلام آخر‏‏ أغلق ملف الاحتلال أو تجاهله‏‏ وسلط الضوء علي تداعياته ونتائجه‏‏ من ثم فقد تم حذف السؤال‏:‏ لماذا تفجر العنف من اللائحة‏‏ وطلب من الجميع أن ينشغلوا بشيء واحد فقط هو وقف العنف‏‏ وأهل السياسة بهذا الأسلوب لم يختلفوا كثيرا عن أولئك الذين عرفوا أن تسريبا حدث من مستودع الغاز فأشعل الحرائق في أماكن عدة‏‏ فاحتشدوا لإطفاء الحرائق‏‏ دون أن يفكروا لحظة في التخلص من المستودع أو علاج ثغراته‏‏ فكانت النتيجة انهم كلما أطفؤوا حريقا في مكان‏‏ اندلعت النار في مكان آخر‏.‏
أدري أن السياسيين لا يقولون كلاما واحدا‏‏ ولا يفكرون بمنطق واحد فالأمريكيون حين يتحدثون عن وقف العنف فإنهم يعنون إنهاء الانتفاضة الفلسطينية ووقف المقاومة‏‏ ولا يرون غضاضة ولا إثما فيما يفعله “الإسرائيليون”‏‏ بل انهم يذهبون إلي تبرير أفعالهم وتسويفها بحسبانها دفاعا عن النفس وبهذا المسلك المذهل فإنهم ابتدعوا موقفا قانونيا جديدا لم يقل به أحد من الأولين أو الآخرين‏‏ إذ حاولوا أن يقنعونا بحق المحتل في الدفاع عن احتلاله في مواجهة الذين يسعون للتحرر من قبضته‏‏ ومن ثم حق القاتل في الإجهاز علي ضحيته‏‏ وتخطئة وإدانة الضحية إذا ما حاولت أن تدفع عن نفسها القتل‏.‏

التفكير مختلف بطبيعة الحال في الخطاب السياسي العربي الذي يتبنى الدعوة إلي وقف العنف‏‏ إذ أن المقصود في هذه الحالة وقف الممارسات المتسمة بالعنف التي تصدر عن الجانبين “الإسرائيلي” والفلسطيني معا‏‏ وهي دعوة لا يختلف المرء مع ظاهرها‏‏ لكن محتواها فقط هو ما يحتاج إلي تحرير‏‏ لتحديد مدي العنف المقصود‏‏ وذلك مايدعونا إلي التشديد علي أهمية إدراج الاحتلال علي رأس اللائحة‏‏ إذا هو المستودع الذي تتغذى منه مختلف الحرائق في الأرض المحتلة‏‏ وما لم يتم التخلص منه‏‏ فلا أمل في القضاء علي تلك الحرائق‏.‏
وبذلك الترتيب والتصويب تكتسب الدعوة إلي وقف العنف الصدق والفاعلية‏‏ وتغدو تعبيرا مخلصا عن الرغبة في تجنيب المنطقة تلك الحرائق التي تعصف باستقرارها بين الحين والآخر‏.‏

‏(4)‏

إن شئنا أن نذهب إلي أبعد من المكاشفة فينبغي أن نقر بأن العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون هي الهدف الحقيقي الذي تصوب إليه الدعوة الأمريكية الملحة إلي وقف العنف‏‏ ولا غرابة في ذلك لأن التجربة أثبتت أن تلك العمليات كانت السلاح الوحيد الذي أوجع إسرائيل وزلزل منظومتها الأمنية‏‏ بل هي السلاح الذي ضرب المشروع الصهيوني في أعماقه‏‏ من حيث انه اقنع اليهود الذين تم استجلابهم من جهات الكرة الأرضية الأربع بأن إسرائيل ليست هي الحل‏‏ وإنما هم يصبحون أكثر استقرارا وأمنا إذا ما عاشوا خارجها‏.‏
إذا كان لديك شك في ذلك التقدير للعمليات الاستشهادية فإليك هذه الشهادة التي سجلها الكاتب الأمريكي توماس فريدمان‏‏ اليهودي المقرب من البيت الأبيض ومن دوائر حزب الليكود في “إسرائيل”‏‏ وقد نشرتها له الشرق الأوسط في‏4/29‏ في سياق مقالته الأسبوعية التي تنشر بالاشتراك مع صحيفة نيويورك تايمز قال صاحبنا في شهادته مايلي‏:(‏ أدت الانفجارات الانتحارية خلال شهرين متواصلين إلي قلب البلد يقصد “إسرائيل” رأسا علي عقب‏.‏ وأفقدت إسرائيل الشعور بالأمن أكثر من عمل أي جيش عربي خلال الخمسين سنة الماضية‏‏ في الوقت ذاته فإنها جعلت الإسرائيليين أكثر استعدادا من أي وقت مضي للتخلي عن الأراضي الفلسطينية‏).‏
لم يقصد السيد فريدمان بطبيعة الحال أن يشيد بجدوى العمليات الاستشهادية لكنه بالدقة أراد أن يثير قلق القارئ علي أمن إسرائيل‏‏ ويدفعه إلى التعاطف معها‏‏ لكننا ينبغي أن نقرأها علي نحو مختلف‏‏ بحيث تزيدنا اقتناعا بضرورة الحفاظ علي ذلك السلاح الموجع وعدم التفريط فيه ومقاومة كل محاولة لتجريد الفلسطينيين منه‏.‏

ليس يهمنا كثيرا أن يفتي الرئيس الأمريكي بأن الفلسطينيين البواسل الذين يقومون بتلك العمليات ليسوا شهداء‏‏ وإنما هم إرهابيون وقتلة‏.‏ فكل الذين قاوموا الغزاة أطلق عليهم المحتلون مثل هذه الأوصاف النازيون كانوا أول من وصفوا معارضيهم بأنهم إرهابيون‏.‏ لكن أكثر ما يهمنا هو ذلك اللغط المثار في محيطنا العربي حول تلك العمليات خصوصا من جانب بعض الباحثين المحترمين‏.‏

يوم السبت الماضي‏5/18‏ أدلى أستاذنا الدكتور سعيد النجار بدلوه في الموضوع‏‏ في مقال نشرته له صحيفة الوفد وبعد أن جرم العنف “الإسرائيلي” أيد ثلاث صور للعنف من جانب الفلسطينيين هي‏:‏ العنف ضد العسكريين “الإسرائيليين” أينما كانوا‏‏ وضد المستوطنين أينما كانوا‏‏ وكل أعمال المقاومة داخل الأراضي الفلسطينية‏‏ واعتبر تلك الأعمال من قبيل الممارسات التي تجيزها كل الشرائع‏‏ لكنه اعترض علي العنف ضد “المدنيين في العمق الإسرائيلي” مستندا في ذلك إلي أنه لا يجوز بأي حال للحرب أو لأعمال العنف أن تطال المدنيين الأبرياء‏‏ وهو الموقف الذي يتبناه أكاديميون آخرون في المقدمة منهم الدكتور شريف بسيوني أستاذ القانون الدولي المعروف‏‏ وقد سجل اعتراضه وانتقد العمليات الاستشهادية أثناء الندوة التي عقدت بالقاهرة في الأسبوع الماضي لمناقشة موضوع المحكمة الجنائية الدولية‏.‏

أزعم أن مثل هذا اللغط ناشئ عن الالتباس والتداخل بين الحكم والفتوى إذا استخدمنا منطق فقهاء الأصول‏‏ أي عن الخلط بين الرأي مجردا والنص كما يجب وبين ذلك الرأي في حالة تنزيله علي الواقع‏‏ فلا يختلف أحد علي أن قتل المدنيين محظور بل هو جريمة في كل شرع وملة ودين‏‏ ذلك هو الحكم الذي يحسم المسألة علي الصعيد النظري‏‏ أما إذا أردنا تنزيل الحكم علي الحالة التي نحن بصددها فإن ملابسات عدة ينبغي أن توضع في الاعتبار منها مثلا أننا بصدد احتلال استيطاني وحشي‏‏ وأن ذلك الاحتلال أعلن الحرب على الفلسطينيين وعمد إلى قتل نشطائهم دون تفرقة بين سياسيين وعسكريين

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات