الخميس 25/أبريل/2024

المقاومة في زمن الهيمنة الأمريكية

المقاومة في زمن الهيمنة الأمريكية

على مدار عمر الصراع العربي الإسرائيلي وتحديداً علي المسار الفلسطيني كان هناك باستمرار نوع من الجدل حول طبيعة الأدوات المستخدمة من جانب كل طرف‏.‏ وفي مرحلة مبكرة من عمر الصراع وتحديداً منذ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم أرض فلسطين الانتدابية بين العرب واليهود ـ القرار‏ 181‏ لعام ‏1947‏ ـ اتجه كل طرف إلى استخدام كل الأدوات المتاحة أمامه من أجل تحقيق هدفه،‏ ولاعتبارات تاريخية عديدة مالت كفة القوة إلى جانب العصابات الصهيونية لاسيما بعد أن تدفق عليها السلاح من مخازن معسكرات جيش الاحتلال الانجليزي‏،‏ ثم من دول أوروبية أخرى بعد قرار التقسيم‏.‏ هنا استخدمت العصابات الصهيونية عمليات القتل الجماعي والمجازر ضد سكان فلسطين من غير اليهود بهدف السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد من السكان ـ من غير اليهود ـ وبدونهم إن أمكن‏.‏

وعلى مدار تاريخ الصراع وحتى سنوات قليلة مضت‏،‏ استخدمت “إسرائيل” جميع أدوات القتل والارهاب ضد العرب وبالأساس المدنيين،‏ ولم يكن وارداً في هذه المرحلة التي كانت تخضع لمواجهة على قمة النظام الدولي فيما سمي بالحرب الباردة،‏ لم يكن وارداً الحديث عن جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية برغم تنوعها وتعددها في ذلك الوقت‏.‏ والملاحظ أن ما أثير عن عمليات استهداف المدنيين كانت تستخدم من حين إلى آخر في مواجهة عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية‏،‏ هذا بينما لم تثر على نطاق واسع جرائم “إسرائيل” ضد المدنيين العرب سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو الذين سقطوا بفعل غارات جوية على مدن عربية أو حتى الذين سقطوا في مجازر جماعية‏.‏

ومع انتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة،‏ بدأ الحديث عن ضرورة تخليص الأمم المتحدة من القيود التي أعقبتها على مدار الحرب الباردة وطرحت مقولات من قبيل زيادة مساحة دور ميثاق الأمم المتحدة في حكم التفاعلات الدولية،‏ وهو الاتجاه الذي بدأت إرهاصاته الأولى على يد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش‏،‏ وفي إطار سعيه لحشد التأييد الدولي لضرب العراق على إثر غزوه للكويت في الثاني من آب (أغسطس) عام ‏1990.‏

وسار المجتمع الدولي وبوحي من الولايات المتحدة الأمريكية خطوة أكبر في هذا الاتجاه عندما بدأ الحديث عن ضرورة سن تشريعات لمواجهة الجرائم التي ترتكب بحق البشرية‏،‏ وجرى في هذا السياق تشكيل محكمتين خاصتين لجرائم الحرب في رواندا ويوجوسلافيا،‏ ثم كان التطور الأبرز وهو تشكيل أول محكمة جنائية دولية دائمة‏،‏ وهي المحكمة التي بدأت ممارسة نشاطها رسمياً في الأول من يوليو الماضي‏.‏ وبالتوازي مع ذلك بدأ الحديث عن مبدأ جديد في العلاقات الدولية سمي مبدأ حق التدخل الانساني، وخلاصة المبدأ أن هناك حالات تشهد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان سواء في صراعات بين دول أو داخل الدولة الواحدة بين جماعتين أو أكثر لاعتبارات عرقية أو دينية أو ثقافية‏،‏ بل إن حاكماً ديكتاتورياً يضطهد شعبه ويحرمه من حقوقه الأساسية يكفي لتفعيل المبدأ ومن ثم قيام المجتمع الدولي بالتدخل العسكري لوقف الانتهاكات‏.‏ وعندما بدا واضحاً أن المبدأ الجديد ينتهك مبدأ سيادة الدولة‏،‏ شن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وعدد من الكتاب الغربيين حملة ضارية على مفهوم سيادة الدولة ونعتوه بالمفهوم التقليدي الذي ينبغي تطويره من أجل السماح للمجتمع الدولي بالتدخل حماية للإنسان وحقوقه

ولم يكد يمر وقت طويل حتى بدأت ملامح الصورة الكلية في التبلور،‏ وهي ملامح يمكن رصدها كالتالي‏:‏

‏1-‏ أن الحديث عن التطور في التنظيم الدولي ومن ثم قائمة المصطلحات ـ المبادئ الجديدة‏،‏ إنما شكلت مرحلة من مراحل جني واشنطن ثمار انتصار في الحرب الباردة‏، فقد طرحت الشعارات‏/‏ المبادئ لهدف رئيسي هو تصفية نظم حكم اعتبرتها واشنطن من مخلفات الحرب الباردة أو بمعنى أدق بقايا حلفاء الاتحاد السوفييتي في شتى أرجاء العالم‏.‏

‏2-‏ أن الولايات المتحدة نفسها سرعان ما بدأت تتجاوز وتتجاهل ماسبق وطرحت شعارات ومبادئ فحق التدخل الإنساني يستخدم في مواجهة الدول المارقة أما الصديقة والحليفة فلها أن تفعل ماتشاء‏.‏

‏3-‏ أن حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وأعمال الارهاب التي تمارسها دولة الاحتلال مثلت النموذج الابرز على ازدواجية المعايير‏،‏ ففي الوقت الذي تمت فيه تصفية الاحتلال في شكله التقليدي‏،‏ ولم تعد هناك شعوب ترزح تحت نير الاحتلال،‏ ظل الشعب الفلسطيني، الوحيد الذي لاتزال أراضيه محتلة وتستثنى من تطبيق قرارات الشرعية الدولية‏.‏ وظلت الحالة الاسرائيلية‏، الحالة الوحيدة التي تبقي على احتلال تقليدي لأرض الشعب الفلسطينية ولأراضي من سوريا ولبنان‏،‏ ولأن “إسرائيل” هي الحليف الأول للولايات المتحدة‏،‏ ولأن الأخيرة حددت أهدافها في الشرق الأوسط في هدفي ضمان تدفق إمدادات البترول وأمن “إسرائيل”،‏ فقد بات مطلوباً تطويع قواعد القانون الدولي لخدمة رؤية دعم الحليف،‏ أو بمعنى أدق بات مطلوباً استثناء “إسرائيل” من قواعد القانون الدولي،‏ والبحث أيضاً عن تفصيل قوانين خاصة بها تناسب الحالة الشاذة التي تمثلها “إسرائيل”‏.‏

‏4-‏ وسعياً لتحقيق هذا الهدف أقدمت واشنطن على أفعال تقدم الدليل الحاسم على ما تواجه به من ازدواجية المعايير ولايتسع المقام هنا سوى إلى الإشارة إلى بعض النماذج على سبيل المثال‏.‏ نشير هنا إلى استبعاد قرارات الشرعية الدولية برمتها عن حكم مسار تسوية الصراع العربي الإسرائيلي على مختلف المسارات‏،‏ وترك المحصلة تتحدد وفق موازين القوة‏.‏ منع مجلس الأمن الدولي من نظر مسار الصراع أو توفير الحماية للشعب الفلسطيني كما يقول ميثاق المنظمة الدولية‏،‏ وأيضاً تعطيل قرارات الشرعية الدولية التي تصدر بحق “إسرائيل” بدءاً من القرارات المبدئية النابعة من مبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي عن طريق القوة،‏ وعدم جواز استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية‏،‏و انتهاء بقرار تشكيل مجرد لجنة تقصي حقائق بشأن ماجرى في مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس من جرائم إسرائيلية بحق الانسانية‏.‏ ويشار هنا إلى أن رفض “إسرائيل” استقبال اللجنة كان يقتضي عودة مجلس الأمن للاجتماع مجدداً من أجل إصدار قرار جديد استناداً إلى الفصل السابع من الميثاق‏،‏ أي التنفيذ الجبري بالقوة المسلحة للقرار على غرار ما يجري حالياً تجاه العراق بشأن القرار ‏1441،‏ فعدم تنفيذ العراق للقرار أو قول رئيس فريق التفتيش الدولي بذلك يعني عودة مجلس الأمن للاجتماع من أجل الترخيص لواشنطن بضرب العراق‏.‏ ولكن ما حدث في الحالة الاسرائيلية هو أن الأمين العام للأمم المتحدة أعلن حل اللجنة الدولية وانتهاء كل شيء‏.‏

‏5-‏ أيضاً بدا واضحاً للولايات المتحدة أن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تشكل خطراً داهماً على “إسرائيل” لأكثر من سبب‏:‏ أولاً الميثاق الأساسي للمحكمة يقول إن الاستيطان جريمة حرب والمستوطنين مجرمو حرب‏.‏ وثانياً أن العرب يمكنهم ملاحقة قادة “إسرائيل” السياسيين والعسكريين وطلب تقديمهم للمحكمة الدولية‏،‏ فقبل هذه المحكمة كان ذلك يتم عبر طلب تشكيل محكمة خاصة على غرار رواندا ويوجوسلافيا‏،‏ وهو أمر كان يتم بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي‏،‏ وعبر الفيتو الأمريكي أو البريطاني وكانت واشنطن مطمئنة لعدم تشكيل محكمة لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين‏،‏ وهو الأمر الذي انتهى ببدء نشاط المحكمة الجنائية الدائمة‏.‏ لذلك شنت واشنطن حملة علي المحكمة ورفضت التصديق على نظامها الأساسي،‏ ودعت الدول الموالية لها إلى عدم التصديق‏،‏ بل إنها شنت أخيراً حملة لتجاوز المحكمة عبر توقيع اتفاقات ثنائية مع دول حليفة تقوم على نقطة واحدة هي عدم الخضوع للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة‏.‏ أي أن واشنطن تعمل على توسيع رقعة الاستثناء من المحكمة لتضييق الخناق عليها ومن ثم تجاوزها‏.‏

وقد قفزت هذه الملاحظات إلى صدارة الاحداث دفعة واحدة بعد العملية الفدائية التي قامت بها عناصر تابعة لحركة الجهاد الإسلامي ضد مستوطنين وجنود في مدينة الخليل‏.‏ فعقب هذه العملية صدرت ردود فعل دولية واسعة النطاق ومما لفت الانتباه هنا هو عنف اللغة المستخدم في التنديد بالعملية الفدائية‏.‏ فالأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وصف العملية الفدائية بـ الهجوم الإرهابي الحقير، ومسئول السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية خافيير سولانا علق قائلاً: إنني أدين بأشد العبارات الهجوم الذي نفذ ضد مدنيين إسرائيليين، أما وزير الخارجية البريطاني جاك سترو فقال: لقد شعرت بالرعب عندما تبلغت نبأ الهجوم علي إسرائيليين عائدين من الصلاة.

تكشف هذه العبارات عن حالة من حالات الكذب والاستهتار بالقانون الدولي‏،‏ وبكل ما يمت بصلة للشرعية الدولية‏،‏ فالذين صرحوا بهذه الكلمات يعرفون تماما أن العمل العسكري ضد الاحتلال في الأراضي المحتلة عمل مشروع بموجب ميثاق الأمم المتحدة‏،‏ فالميثاق يعطي الشعوب الخاضعة للاحتلال الحق في مقاومة الاحتلال من أجل تحرير ترابها الوطني‏،‏ وسولانا وسترو يعلمان جيداً أن كلماتهما لاتعدو أن تكون نوعاً من النفاق الرخيص‏، فالقتلى جنود احتلال ومستوطنون‏،‏ أي ليسوا مدنيين وبالتالي فكلماتهما الاستنكارية تمثل إهانة للشرعية الدولية وطعناً في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة‏.

‏إن أخطر ما في كلمات الأمين العام للأمم المتحدة أنها تأتي لتخلط المفاهيم وتدخل المشروع قسراً في دائرة المحظور‏،‏ وهو الأمر الذي يمكن أن يطيح بالمفهومين معا بعد أن تفقد هذه القيم قيمتها ومدلولاتها‏.‏

ويثير ما قاله أنان وسولانا وسترو قضية ما بقي من ميثاق الأمم المتحدة بشأن الكفاح المسلح لتحرير الأرض‏،‏ وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال،‏ ويبدو واضحاً أن هذه التصريحات تعبر عما جرى لقيمة المقاومة في زمن الهيمنة الأمريكية، فكلمات الثلاثة تعبر عن رأي واشنطن في قيمة المقاومة المسلحة مادامت تمارس ضد حليف،‏ ومن قبل قوي محسوبة علي معسكر العدو الجديد بعد الحادي عشر من سبتمبر‏.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات