الجمعة 29/مارس/2024

ما لا تحسب فتح حسابه !

ما لا تحسب فتح حسابه !

 

على مر التاريخ العربي المعاصر بل ربما على مر التاريخ كله كان مرد نشوء التيارات الفكرية المتشددة – على اختلاف تلاوينها – بالدرجة الأولى هو حالة القمع السياسي التي تمارسها النظم الحاكمة والقهر المادي والمعنوي المتعسف الذي يمارس بحق الحركات العقائدية بغية إفنائها واقتلاع جذورها.

فالنظم التي لم تؤمن بالتعايش السلمي مع الحركات الإسلامية الوسطية ولم تطق استيعابها كظاهرة وكتيار له حضوره كان عليها أن تواجه لاحقاً تبعات إفرازات القمع الذي مارسته ضد هذه التيارات، وكانت تجد نفسها في مواجهة تيارات متشددة فكراً وسلوكاً لا مكان في أدبياتها لأنصاف الحلول أو لإمكانية التآلف مع أي فكر آخر..

 ولعلنا لو بحثنا في جذور التيار السلفي الجهادي لوجدنا أن نسبة لا بأس بها من عوامل نشأته كانت ردة فعل على جور الأنظمة الحاكمة وطغيانها وقمعها في البلاد العربية.

 وفلسطين بدورها ليست بمعزل عن التفاعلات الفكرية والسياسية التي تجري بالقرب منها، غير أن واقع الاحتلال كان دائماً يمنح التجربة الفلسطينية الفكرية والسياسية خصوصية معينة تشكل صمام أمان يحافظ على وحدة الشعب ويفضي إلى ذوبان التناقضات الداخلية بين الأطياف السياسية المختلفة على اعتبار أن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال وحده.

 غير أن التفاعلات التي باتت تضج بها الساحة الفلسطينية منذ عهد قريب تشي بأن الأمور توشك – للأسف – أن تنفلت من عقال الانسجام والتآلف ولو بحدهما الأدنى!

 ولسنا نبالغ إن قلنا إن فتح ومنذ فوز حماس في الانتخابات باتت تدفع الأمور دائماً باتجاه التصعيد وبما يعمق حالة التنافر بينها وبين حماس ويؤسس لاصطفافات داخلية لا تبشر بالخير، والمفارقة هنا أنها لا تتصرف كجهة معارضة أو كحزب بل كنظام سلطوي متسلط يتحكم بمفاصل الحياة الفلسطينية أو يتصور أنه وحده من يملك التحكم بتلك المفاصل وتسييرها وفق مصلحته الخاصة.

  ولعل المتابع لتفاصيل الحراك الفتحاوي على المسارات كافة الإعلامية والميدانية يدرك أن فتح تتحرك بنفس انتقامي غير مسبوق يستبيح أي فعل من شأنه أن يعمل على إضعاف الطرف الآخر المتمثل بحماس حتى لو وصل الأمر إلى حد التساوق مع مطالب أطراف الحصار المختلفة وتشكيل جبهة داخلية ضاغطة على حماس.

 وقد بات واضحاً أن المعارضة (البناءة) أو (الموالية) التي كانت فتح قد قالت إنها ستلتزم بها لم تكن سوى وهم سرعان ما تبدد، تماماً كما أن عملية الانكفاء على الذات لاستنهاض الحركة ومعالجة أخطائها بعد الخسارة لم تتحقق، بل غدت مسألة هامشية على جدول الأعمال الفتحاوي في الوقت الذي تبدو فيه الحركة منشغلة بكليتها في النيل من خصمها السياسي وتشويهه وتأليب الرأي العام عليه عبر اختلاق الشائعات المغرضة وكيل الاتهامات الباطلة له، وعبر عملية العصيان المدني الممنهج وما يرافقها من تعزيز لحالة الانفلات الأمني والاستقواء بالمسلحين من أصحاب البنادق العمياء التي امتهنت تخريب المؤسسات وحرقها، تماماً كما امتهنت حناجر حامليها شتم قيادات حماس ورموز حكومتها وتوعّدِهم بالعودة إلى (سالف الأيام) حين كان مجاهدو حماس يسامون التعذيب أشكالاً وألواناً في سجون السلطة (الوطنية) !

 ويبدو أن فتح تغفل أن مراهنتها على بطون الجائعين لتأمين انقلاب الناس على حماس والخلاص منها ثم استعادة العافية الفتحاوية هي مراهنة خاسرة، فإن كان الحال يضيق بالجائع ويدفعه للقبول بأي واقع في سبيل تأمين لقمة خبزه إلا أنه سيطبع في وعيه بأن الحكومة التي تمت محاصرتها وتجويع شعبها هي الحكومة المتمسكة بالثوابت والحقوق، وهو أمر ليس في صالح فتح قطعاً على المدى البعيد خاصة مع تعالي الأصوات من داخلها التي تطالب حماس بالامتثال للمطالب الدولية والإقرار بالاتفاقات والالتزامات السابقة تجاه إسرائيل.

 وفي المقابل فإن هذا الضغط الداخلي المتعدد الأشكال الذي تمارسه فتح وما يرافقه من ممارسات ميدانية لعناصرها من شأنه أن يولد حالة من السخط والنقمة لدى عدد غير قليل من الفلسطينيين يرافقه كم شعوري هائل بالظلم والقهر كفيل بتفجير كوامن الغضب أو التأسيس لظاهرة جديدة على الساحة الفلسطينية لا تؤمن بالواقعية السياسية ولا بجدوى الوحدة الوطنية، وتتطرف في نظرتها لفتح ولطبيعة العلاقة معها.

 فليس كل الفلسطينيين موزعين بين حماس وفتح، وليس كل الإسلاميين حمساويين، وحين تتصاعد حالة الاحتقان الداخلي جراء الحصار الخانق والضغط الدائم باتجاه إجبار الشعب الفلسطيني كله على الاعتراف بشرعية إسرائيل وعلى حمل أسفار أوسلو وغيرها فإن ردة الفعل المضادة قد تمضي في اتجاهات لا آخر لها ولا حدود لمقدارها، وقد تبرز تيارات على الساحة ترى أن برنامج حماس الواقعي في التعامل مع فتح غير مجدٍ فتنتهج بدورها نهجاً آخر لا مكان فيه إلا للحسم العسكري.

 وغني عن القول أننا هنا لا نروج لمثل هذا الخيار الخطير ولا نرى فيه حلاً، ذلك أن الحالة الفلسطينية لا تحتمل أمراً كهذا ولا تحتمل أن تستنسخ فيها أدبيات أفكار ترى أن حد السيف هو الفاصل في العلاقة مع غير الإسلاميين.

فلطالما ضمن المنهج الوسطي الذي تحمله حماس مرونة في التعامل مع الآخرين وفتح آفاقاً للالتقاء على قواسم مشتركة كثيرة مع مختلف الأطياف الوطنية على الساحة.

 لكن مضي فتح نحو التطرف في نظرتها لحماس وفي تحريضها المستمر عليها وتكريس حالة من الفوضى الداخلية لا تضمن ألا تؤسس لما بعدها وألا تفرز خصوماً جدد لفتح ونهجها.

ولعل المؤتمر الصحفي الأخير لبعض الأجنحة المسلحة التي حذرت أية حكومة قادمة من الاعتراف بإسرائيل وصنفتها كعدو في حال فعلت ذلك أمر يستحق من فتح التوقف قليلاً لكي ترى إلى أين وصلت وأوصلت المزاج الداخلي وإلى أي حد تطور الوعي الفلسطيني بعد أن اكتشف بجلاء حجم خطيئة التنازلات السياسية المجانية السابقة.

 ولو كانت فتح تسير على هدى الحكمة والتعقل والقدرة على وزن الأمور لأدركت أنه ليس من مصلحتها صناعة خصوم جدد لها يناصبونها العداء إما من منطلق عقائدي متشدد لا يؤمن بشرعية الشراكة السياسية والوحدة الوطنية أو من منطلق ثوري مطلق يكفر بالواقعية السياسية وكل إفرازاتها، وليس من مصلحتها العزف الدائم على وتر الوضع المادي المتردي الذي يدرك قسم كبير من شعبنا أنه ليس من صنيعة الحكومة الحالية التي حوصرت منذ اليوم الأول لها والتي ما زال قسم كبير من رموزها في السجن ضريبة مواقفهم.

 فهل ستتوفر لدى فتح قدرة على النظر بعيداً وعلى تقييم تبعات مواقفها وممارستها المختلفة على المدى القريب والبعيد، أم ستمضي في دفع الأمور إلى حدود التأزم والانهيار لتجد في النهاية أنها قد جنت على نفسها من حيث لا تدري ؟!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات