السبت 20/أبريل/2024

مستقبل الانتفاضة .. مقاربة منهجية

مستقبل الانتفاضة .. مقاربة منهجية

التشوف السياسي ليس رجماً بالغيب. إنه عملية بالغة التعقيد، تقوم على تأمل منهجي لمسار الظاهرة من الناحية التاريخية والتعرف على أهم العناصر المحددة لهذا المسار ماضياً وما طرأ عليها من مستجدات في الحاضر، وصولاً إلى بلورة صورة افتراضية لما يمكن أن تكون عليه الظاهرة في المستقبل. ويجمل المعنيون بالدراسات المستقبلية هذه الخطوات بالقول بأنه “لكي نعرف إلى أين لابد أن نعرف من أين”.

ومع ذلك، فإنه مهما بلغت معرفتنا بماضي الظاهرة وبوضعها الراهن وبالمحددات التي تحف بصيرورتها وكينونتها، يبقى هناك دوماً هامش لغير المحسوب و اللا متوقع. الذي يستطيع صرف عملية التشوف أو الاقتراب من المستقبل بدرجة أو أخرى وخلط الأوراق والحسابات. من ذا الذي تصور على سبيل المثال أن تطرأ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، بكل تداعياتها واسقاطاتها على تفاعلات الانتفاضة الفلسطينية، بل وعلى مجمل مسار القضايا العربية والدولية؟ علينا إذا أن لا نبالغ في قدرتنا على اختراق الحجب وكشف ما تخبئة الأقدار لقضايانا وهمومنا وشواغلنا، في عالم لا يخلوا من المفاجآت.

لكن القناعة بصعوبة عملية الاستطلاع، التي تنسحب على البحث في مستقبل الانتفاضة، لا تعني استحالة هذه العملية والركون إلى ترك الأمور المتعلقة بهذا المستقبل لتتفاعل من تلقاء ذاتها بمعزل عن إرادتنا الواعية وتدبيرنا المقصود والموجه، إننا إذا استشعرنا هذه الاستحالة ووطنا أنفسنا عليها فسوف ندخل دائرة العجز ثم الهزيمة المفضية إلى الاستسلام الكلي. وهذا مخالف لمفهوم التخطيط الإستراتيجي. ففي هذا التخطيط يجرى الاستعداد لكل شاردة وواردة، بل ويتم الإعداد والاستعداد المسبق لكثير من غير المتوقع والمفاجئ.

وبناء على ذلك، يلجأ صناع القرار إلى وضع عدد من البدائل والخيارات بدون التخلي عن الأهداف العليا تحت زعم ضغوط الظروف والمتغيرات أو الطوارئ والمستجدات.

نود القول، إن ثمة مجموعة من الأسس والقواعد الصارمة التي تحف بصيرورة الانتفاضة حاضراً ومستقبلاً، ولابد أن تمارس دورها بغض النظر عن أي حدث طارئ. وفي تقديرنا أن تشوف مصير الانتفاضة، انتصاراً أم انكساراً، معلق بالتمعن في هذه الأسس واستبصار وضعيتها ومدى توفرها من عدمه.

الأساس الأول، يتعلق بحال البيت الفلسطيني من الداخل، إن سياسة فلسطينية لا تنطلق من توافق عام وائتلاف حول الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية (المرحلية) ووسائل النضال وتوزيع المسئوليات والأدوار وأنماط التحالف العربية والدولية وكيفية إدارة المعركة مع العدو، في إطار نظام سياسي ديمقراطي خال من الفساد إلى أبعد الممكن على جميع الصعد.. سياسة فلسطينية كهذه لن تتمكن من أداء مقاوم تحرري فعال لا بالانتفاضة ولا بالتفاوض نحن لا نتحدث هنا عن وحدة وطنية بمفهوم الكتلة الإسمنتية أو الحديدية الصلبة. فهذا المستوى من التوحد يبدو طوباوياً وينم عن نزعة غير واقعية بالنظر إلى المشهد الفلسطيني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. المقصود فقط هو “التوافق والائتلاف العام”، باعتبار أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. والذي لا شك فيه أن الانتفاضة لن تبلغ مآربها وقد تنتكس، وفي أفضل الفروض سوف تراوح في مكانها، إذا ما استمرت أسيرة لعقليتي الإقدام والإحجام التي تراود القيادة الفلسطينية العليا تجاهها. وأسوأ من ذلك على مستقبل الانتفاضة أن تتفرق السبل بفصائل السياسة الفلسطينية إلى أن يصبح التلاقي بينها مستحيلاً، وتقع في وهدت أو سقطة مطاردتها لبعضها البعض. ففي حالة كهذه، ستمسي الانتفاضة – ويحاصر المنفضون – بين مطارق العدو وسنادين بعض أهل البيت، فتعظم الخسائر على الأرباح والمكاسب.

لم يسبق لحركة تحرير أن بلغت مرادها بدون حد معقول من التوافق بين أطرافها، ونحن نتفهم العوامل الموضوعية التي دفعت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى التشظي التنظيمي والفكري. غير أنه لا مبرر لئن يستمر هذا التشظي كقدر مقدور لا يمكن الإفلات منه. مثل هذا الوضع لا يبدو منطقياً في ضوء العطاء الجماهيري الميداني.. والأولى بفصائل المقاومة أن تتخذ من هذا العطاء هادياً لها ومرشداً بدلا من تشظيته وتمزيقه خلفها. ولكن كيف يتأتى لهذه الفصائل، المشاركة في سلطة الحكم الذاتي بالتحديد، أن ترشد الجماهير طالما أنها هي ذاتها تفتقد للدليل أو الدستور المرشد لحركتها منذ هجران الميثاق الوطني لمنظمة التحرير؟ الانتفاضة تدار فلسطينياً بسياسة يوم بيوم وفصيل بفصيل وقيادة بقيادة.. حتى ليمكن الزعم بأنها تعاني من شبه اليتم القيادي العام، وهذا لا يؤهلها سوى للصمود المؤقت ويقربها من مرحلة الإفلاس والعشوائية. وهناك أطراف كثيرة تسعى إلى هذه الوضعية للفتك النهائي بها، وجعل تضحياتها العظيمة بلا جدوى.

الأساس الثاني، يتعلق بحال النظام العربي الظهير. فبين جماهير متحفزة أثبتت استعدادها لنصرة المنتفضين على خلفية صلبة من “المشاركة” القومية والروحية، وبين مقارنة خجولة مترددة تقوم بها النظم الرسمية سقفها “التضامن” عن بعد، باتت الانتفاضة عرضة ليتم قومي علاوة على شبه اليتم الوطني. المساندة العربية للانتفاضة تفتقر للديمومة والاستمرارية الانتفاضة ليست هما يومياً للأرومة القومية العربية. فهي تحولت بفعل فاعلين عرب وعجم إلى حالة عادية لا تثير الدهشة. والحدث الذي لا يثير الدهشة يقع لا محالة في طي النسيان والتجاهل، يصير الاهتمام به مسألة موسمية.

هذه الحال العربية خطرة جداً بالنسبة لمستقبل الانتفاضة. إنها حال مثالية لمن أراد الاستفراد بها واعتصارها. فمن قال إن المنتفضين في فلسطين يمكن الدأب على أدائهم النضالي بدون الظهير العربي القومي؟

الأساس أو الثابت الثالث، يتعلق بالنظام الدولي فالانتفاضة والفعل النضالي الفلسطيني بعامة ليس منقطع الصلة بطبيعة هذا النظام ومصالح القوى المهيمنة فيه. ومن دواعي الأسى أن معظم التطورات التي لحقت بهذا الثابت جاءت في فترة الانتفاضة معاكسة وعلى غير ما تشتهى. هذا علاوة على أن القوة المتربعة على قمة النظام هي نصير بل وشريك عتيد لـ”إسرائيل”، بما أطلق يدها ضد المنتفضين بلا وازع دولي سياسي أو قانوني. ولا يحتمل أن تطرأ تحولات على هذه الحقائق المريرة في الأجل المنظور. الأمر الذي يحث المنتفضين على التحرك في بيئة دولية غير مواتية. ومع ذلك ، علينا أن نتذكر كيف أن هذه البيئة لم تكن مواتية بالكامل للنضال الفلسطيني في أي مرحلة من مراحله، وأن حكمة القوى المنتفضة تكمن في إيجاد مداخل للحركة والديمومة في إطار هذه البيئة وعلى الرغم منها، أما الانصياع لمطالبها وشروطها فسوف يعود على القضية الفلسطينية بأفدح الأضرار.

الأساس الرابع، وثيق الصلة بالتجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وما يعرف بالداخل “الإسرائيلي”، ولا يوجد على هذا الصعيد ما يشي بأن القوى الإرهابية ونخبتها الحاكمة في سبيلها للتواري. العكس هو المرشح للاستقرار مستقبلاً، أي زيادة جرعة الإرهاب، ضد المنتفضين طالما أن البيئتين العربية والدولية مهيئتان لذلك.

غير أن الانتفاضة أوجعت هذا الكيان اقتصادياً وسكانياً وثبت عدم الاطمئنان للمستقبل داخله وانتهكت نظرية الأمن المطلق التي يسعى للاتشاح بها، وهذه مكاسب للمنتفضين يعتد بها. فإذا كان المنتفضون يألمون فإن “إسرائيل” تألم مثلهم. والظفر لمن صبر ورابط.

على الجملة، تبدو الانتفاضة قابلة للاستمرار ولكنها ليست على أبواب الانتصار، تماماً كما أن هزيمتها بالكامل تبدو صعبة المنال. وهي سوف تسير في خط بياني صاعد أو هابط أو رتيب بدون قطيعة. وهذه جميعها مواصفات توحي بحرب استنزاف فلسطينية “إسرائيلية” ممتدة.

 

 

المصدر: البيان الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات