الجمعة 19/أبريل/2024

موسم العناوين المغشوشة

موسم العناوين المغشوشة

يبدو أننا داخلون في طور الترويج للبضاعة الفاسدة من العناوين المغشوشة إلي الدعاية السوداء‏.‏ نعم لم تخل صفحة في ملف التسوية السلمية من مثل هذه المحاولات‏(‏ التسوية ذاتها ثبت أنها كانت عنوانا مغشوشا‏)‏ إلا أن حملة السور الواقي التي شنتها القيادة “الإسرائيلية” مؤخرا استصحبت حملة موازية من الأكاذيب التي يراد بها كسر الإرادة بعد كسر العظام الفلسطينية‏.‏

‏(1)‏

حول عنوان الهزيمة التقت بعض الأصوات المشبوهة‏‏ التي راحت تنعي إلينا حظوظ المقاومة‏‏ مشيرة إلي ما جري في الأرض المحتلة‏‏ وكيف أن كل الدمار الذي حدث وكل الضحايا الذين سقطوا‏‏ كل ذلك ما كان له أن يحدث لولا التوريط الذي أوقعتنا فيه المقاومة‏.‏

حتى قرأنا لمن وبخ الذين أيدوا المقاومة‏‏ وطالبهم بالاعتذار عن اندفاعهم وراءها دون وعي‏‏ حتى أوصلوا الأمور إلي ما وصلت إليه‏.‏

هذه أم الأكاذيب بامتياز‏‏ من حيث أنها خليط من الغش والدعاية السوداء في آن واحد‏.‏ إذ ليس صحيحا أن الفلسطينيين هزموا‏‏ وانه لم يعد أمامهم سوي التسليم والانبطاح‏.‏ ذلك أن الهزيمة في معارك التحرير تقاس بمقدار انكسار إرادة المقاومة‏‏ واليأس من المضي في طريق النضال‏.‏ وتلك خبرة التاريخ التي لايستغرب إنكارها من قبل المهزومين أصلا والمنبطحين ابتداء‏.‏ الذين يشكون ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب وهم يشيرون إلي ما حل بالضفة الغربية وما جري في جنين وأخواتها‏.‏ والسؤال البسيط الذي يطرحه هذا المشهد هو‏:‏ إذا كان الفلسطينيون أنفسهم لم يشكوا ولم يسلموا بالهزيمة‏‏ فلماذا تتطوعون انتم بالشكوي والنواح نيابة عنهم‏‏ ولماذا تسارعون إلي نعي انتفاضتهم في الصحف؟‏!‏

لا الفلسطينيون هزموا ولا شارون انتصر‏.‏ وإذا لم تصدق الشق الأول فإليك هاتين القصتين‏:‏ نشرت الصحف أن أم الطفل محمد الدرة‏‏ الذي رأينا بأعيننا كيف قتله الإسرائيليون بينما كان سائرا مع أبيه‏‏ هذه السيدة التي فجعت في ابنها الأول‏‏ حامل الآن في وليد ثان‏‏ وقالت لمن سألوها أنها تهدي هذا الوليد إلي شارون‏‏ وتريده أن يلحق بأخيه شهيدا‏.‏ وقبل أيام قرأنا قصة أم نضال‏‏ والدة الشاب محمد فرحات الذي اخترق الحواجز الأمنية “الإسرائيلية” ‏‏ ونجح في تنفيذ عملية استشهادية في مستوطنة بجنوب غرب غزة‏‏ قتل فيها‏5‏ مستوطنين وجرح اكثر من عشرين‏.‏ حسب البيان الرسمي “الإسرائيلي” ‏.‏ هذه الأم لها ابن مطارد وثان معتقل‏‏ بعد أن فشلت عملية فدائية كان ينوي القيام بها‏‏ ابنها الثالث محمد سار علي درب اخوته‏‏ وأطلع أمه علي الخطة التي يعتزم تنفيذها‏‏ فلم تلطم خديها وتصرح طالبة منه أن يكف عن التهور والاندفاع‏‏ لكنها قبلت باختياره وكتمت مشاعرها‏.‏ وقبل العملية التي كلف بها التقطت معه الصور التي سجلها الفيديو‏.‏ وفي اليوم المعلوم أوصلته إلي الباب وهي تدعو له بالتوفيق وبأن يرزقه الله الشهادة‏‏ ثم جلست في البيت إلي جوار المذياع‏‏ تنتظر سماع نجاح العملية واستشهاده‏(‏ الشرق الأوسط‏6/5).‏

بالله عليكم‏‏ إذا كانت تلك الروح مازالت باقية بين الأمهات الفلسطينيات‏‏ هل يمكن أن يقال إن الفلسطينيين هزموا؟

ليست هذه نماذج استثنائية‏‏ ولا أستطيع أن ادعي أن كل أم فلسطينية تفكر علي ذلك النحو‏‏ ولكن أم محمد وأم نضال تعبير عن روح سائدة في المجتمع الفلسطيني ل اسبيل إلي إنكارها‏‏ وهي تكذب وتنسف من الأساس مزاعم الهزيمة والانكسار التي يلح البعض علي إشاعتها بين الناس‏‏ لأهداف تفتقر إلي البراءة‏.‏

لست في مقام تقييم حصاد الانتفاضة‏‏ فلذلك حديث آخر‏ لكني الفت النظر إلي عنصر واحد في المشهد‏‏ أحسبه لم يعد محل خلاف‏‏ فلسطينيا أو عربيا‏‏ وهو أن الانتفاضة الراهنة أعادت الاعتبار إلي خيار المقاومة المسلحة للاحتلال‏‏ ودفعت كل الفصائل الفلسطينية إلي استعادة برنامجها العسكري‏‏ الذي كان البعض قد تخلي عنه‏.‏ ليس ذلك فحسب‏‏ وإنما أصبحت العمليات الاستشهادية في مقدمة أساليب النضال الوطني الفلسطيني‏‏ ولم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية دون غيرها‏.‏

حدث ذلك بعدما أدرك الجميع أن ذلك هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يردع “الإسرائيليين” ويوصل إليهم رسالة الإيلام والوجع‏.‏

أتحدث هنا عن الشعب الفلسطيني الذي اختبر في جنين وبدا شامخا وصلبا وعملاقا‏‏ وليس عن السلطة التي كانت في رام الله‏‏ وتم اجتياح المدينة والاستيلاء عليها دون مقاومة تذكر‏.‏ ذلك أن الشعب هو الذي يهمنا بالدرجة الأولي‏‏ وصواب موقفه وقوة إرادته‏‏ واستعداده اللا محدود للبذل والتضحية دفاعا عن الكرامة والحلم‏‏ هو ما نستحضره ونلفت النظر إليه في اللحظة الراهنة‏‏

‏(2)‏

أحد اشهر العناوين المغشوشة التي تسوق هذه الأيام في الدعوة إلي إصلاح السلطة الفلسطينية وهي الدعوة التي خرجت هذه المرة من تل أبيب وواشنطون‏‏ ثم أصبحت مطلبا عاما‏‏ يجري الاستجابة له فلسطينيا‏.‏

وقد كنت أحد الذين توجسوا منذ رددت هذه الدعوة ألسنة المسئولين “الإسرائيليين” والأمريكيين‏‏ وتذكرت علي الفور مقولة الشيخ البشير الإبراهيمي أحد رواد النهضة في الجزائر‏‏ الذي كان يكن كراهية عميقة للاحتلال الفرنسي‏.‏ إذ نقل عنه ذات مرة قوله‏:‏ والله لو قالوا لا اله إلا الله لنبذناهم أيضا‏(‏ يقصد الفرنسيين بطبيعة الحال‏).‏ وكما انه لم يظن بهم أو يتوقع منهم خيرا‏‏ كذلك الحال مع “الإسرائيليين” والأمريكيين‏‏ الذين لا يتصور أحد أنهم حرصوا ذات يوم علي إصلاح السلطة الفلسطينية‏.‏ وقد فضحهم قبل أيام‏(‏ في‏6/2)‏ آلان جريش رئيس تحرير لوموند دبيلوماتيك‏(‏ الفرنسية‏)‏ حين كتب قائلا إن التقصير الصارخ في مجال حقوق الإنسان‏‏ هو نتيجة السياسة التي اعتمدها المجتمع الدولي و”إسرائيل” ‏‏ اللذان طلبا من عرفات محاربة الإرهاب في مقابل إطلاق يده في كافة المجالات الأخرى.‏ فقبل توقيع اتفاقات أوسلو‏(‏ في‏93/9/13)‏ قال إسحاق رابين إنه يفضل أن يتولي الفلسطينيون الحفاظ علي أمنهم في غزة وان يحكموها بـ‏:‏وسائلهم الخاصة بعيدا عن القانون وكافله‏.‏ وفي عامي‏94‏ و‏95‏ كانت الولايات المتحدة هي من دعا إلي محاكم استثنائية فلسطينية لمحاكمة الإرهابيين‏.‏

أضاف آلان جريش قائلا‏:‏ طيلة سنوات أوسلو لم تكترث الولايات المتحدة أو “إسرائيل” بسجل حقوق الإنسان في الضفة والقطاع‏‏ كما لم تهتما بحسن الإدارة‏‏ بينما كان التهريب والفساد يغذيان القنوات “الإسرائيلية” والفلسطينية علي حد سواء‏‏ ثم تساءل‏:‏ لم إذن هذا الاندفاع المفاجئ تجاه الإصلاح الفلسطيني؟

من المفارقات في هذا الصدد أن بعض عناصر النخبة الفلسطينية رفعت شعار الإصلاح في عام‏99‏ وأصدرت في‏9/27‏ من العام ذاته ما عرف ببيان العشرين‏‏ الذي وقعه عدد من القيادات في الضفة وغزة كان بينهم تسعة من أعضاء المجلس التشريعي‏(‏ أيده فيما بعد‏200‏ من الشخصيات السياسية والنقابية والأكاديمية الفلسطينية‏).‏ كان عنوان بيان العشرين هو الوطن ينادينا‏.‏ أما مضمونه فكان داعيا إلي إصلاح حقيقي يعالج الفساد والإذلال والاستغلال ويجنب الشعب الفلسطيني الاستسلام للمؤامرة التي تكشفت أبعادها في ثنايا عملية السلام‏.‏

آنذاك قوبل البيان بحملة قمع شديدة‏‏ فتم اعتقال ثلاثة من الموقعين عليه‏‏ وحددت إقامة ثالث‏(‏بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس السابق‏)‏ وجرت محاولة اغتيال رابع هو معاوية المصري عضو المجلس التشريعي‏‏ كما تعرض الموقعون علي البيان لحملة تشويه وتصفية سياسية‏‏ حيث وصفهم أحمد عبد الرحمن الأمين العام لمجلس الوزراء الفلسطيني بأنهم فئة ضلت الطريق الوطني إلي حد الانحراف‏‏ وأثيرت من حول الموقعين زوبعة في داخل المجلس التشريعي‏‏ الذي طالب البعض فيه برفع الحصانة عن الأعضاء التسعة الذين كانوا بين الموقعين‏‏ تمهيدا لتقديمهم إلي محكمة أمن الدولة‏.‏

آنذاك ولدت الدعوة إلي الإصلاح‏‏ لكن العنوان أطل مرة أخري بعد ثلاث سنوات‏‏ مبطنا شيئا آخر.‏

‏(3)‏

في البدء جري الحديث عن الدستور والانتخابات واستقلال السلطة القضائية وإعادة هيكلة السلطة‏‏ للإيحاء بأن موضوع الإصلاح مأخوذ علي محمل الجد‏.‏ فصدر قانون استقلال السلطة القضائية وكثر الكلام عن الخطوات الأخرى التي تلبي الرغبة في الإصلاح المنشود‏.‏ ثم انكشف الغطاء فجأة وتبين أن جوهر الموضوع هو تعدد الأجهزة الأمنية‏‏ وكيفية ضبط حركتها والسيطرة عليها‏‏ لكي تقوم بمهمة أساسية هي‏:‏ إحكام الحصار حول المقاومة‏‏

صحيح أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعددت وتضخمت‏‏ حتى لم يعد يعرف عددها علي سبيل الحصر‏.‏ فمن قائل أنها عشرة‏‏ وقائل أنها‏14‏ وذهب الأمريكيون إلي القول بأنها ليست عشرة أو‏14‏ وإنما‏34‏ جهازا‏ً‏ لكن هذه علي سوئها تظل في النهاية مشكلة فلسطينية وليست “الإسرائيلية” أو أمريكية‏.‏ وما يهم الأخيرين ليس عدد الأجهزة وإنما وظيفتها التي يراد لها أن تكمل الدور الذي تقوم به الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” ‏.‏ بسبب من ذلك فإن أهم المشاورات التي جرت تحت اسم الإصلاح كانت تلك التي شارك فيها مسئولو أجهزة المخابرات في الدول المعنية‏‏ وعلي رأسها الولايات المتحدة‏‏ وذلك وحده كاف في الكشف عن حقيقة ومدي المصلحة “الإسرائيلية” في العملية‏.‏

في هذا الموضوع هناك الكثير من التفاصيل‏‏ وهناك لغط أكثر‏‏ لكن الجوهر ظل واحدا‏‏ ورغم أن ما يريده الأمريكيون “والإسرائيليون” ليس بالضرورة هو ما يمكن أن يقبل به الرئيس عرفات‏‏ الذي رفض اكثر من مرة فكرة أن يقوم بدور انطوان لحد قائد ما سمي بجيش لبنان الجنوبي في حماية “إسرائيل” من هجمات حزب الله‏‏ إلا أن المدى الذي يمكن أن يقبل به غير معروف حتى الآن‏.‏ مع ذلك فالقدر المتيقن أن المخابرات المركزية الأمريكية هي صاحبة اليد الطولي في هذا الملف بالذات‏.‏ ثم إن هناك شكوكا وقلقا مشروعا في أوساط النخبة الفلسطينية مما يمكن أن يسفر عنه الإصلاح في هذا الصدد‏‏ خصوصا بعد التنازلات بعيدة المدى وغير المعهودة التي قبل بها الرئيس الفلسطيني في صفقة فك حصاره في رام الله‏(‏ محاكمة المتهمين بقتل رحبعام زئيفي والقبض علي زعيم الجبهة الشعبية أحمد سعدات وتسليمه لسجانين بريطانيين وأمريكيين‏‏ ثم إقرار مبدأ إبعاد‏13‏ فلسطينيا خارج وطنهم‏‏ وإدانة المقاومة رغم استمرار الاجتياح “الإسرائيلي”‏ والقبول بالتراجع عن تشكيل لجنة تقصي حقائق ما جري في جنين‏).‏

قال لي بعض من أعرف من الفلسطينيين في غزة أن تمرير مثل هذه الأمور‏‏ التي يحدث بعضها لأول مرة‏‏ يثير العديد من التساؤلات حول مدي قدرة القيادة الفلسطينية علي الصمود في مواجهة الضغوط وعملية الابتزاز التي يتعرض لها‏‏ وهو مالا يبعث علي التفاؤل بصدد الدور الذي ستقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عام في المستقبل‏‏ إذا ما سارت الأمور علي النحو المخطط له‏.‏

لقد شاء ربك أن يفتضح أمر الإصلاحات أكثر وأكثر‏‏ بعدما صدر قانون استقلال السلطة القضائية‏‏ حين قررت المحكمة الفلسطينية الإفراج فورا عن أحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لاحتجازه بدون وجه حق‏‏ ولكن السلطة لم تستجب للقرار الذي أصدره القضاء الذي استقللتوه‏‏ واستندت في ذلك إلي ذرائع أمنية‏.‏في هذا النموذج انضم مصطلح الإصلاح إلي قائمة العناوين المغشوشة التي جري صكها لأجل التدليس والغش‏‏ والتي من اشهرها مصطلح الاستعمار المشتق من العمران‏‏ والمسكون بمعني النماء‏‏ حيث يبدو جليا أن المراد الحقيقي بالإصلاح في هذه الحالة هو الإلحاق والاستتباع‏.‏

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات