موسم العناوين المغشوشة
يبدو أننا داخلون في طور الترويج للبضاعة الفاسدة من العناوين المغشوشة إلي الدعاية السوداء. نعم لم تخل صفحة في ملف التسوية السلمية من مثل هذه المحاولات( التسوية ذاتها ثبت أنها كانت عنوانا مغشوشا) إلا أن حملة السور الواقي التي شنتها القيادة “الإسرائيلية” مؤخرا استصحبت حملة موازية من الأكاذيب التي يراد بها كسر الإرادة بعد كسر العظام الفلسطينية.
(1)
حول عنوان الهزيمة التقت بعض الأصوات المشبوهة التي راحت تنعي إلينا حظوظ المقاومة مشيرة إلي ما جري في الأرض المحتلة وكيف أن كل الدمار الذي حدث وكل الضحايا الذين سقطوا كل ذلك ما كان له أن يحدث لولا التوريط الذي أوقعتنا فيه المقاومة.
حتى قرأنا لمن وبخ الذين أيدوا المقاومة وطالبهم بالاعتذار عن اندفاعهم وراءها دون وعي حتى أوصلوا الأمور إلي ما وصلت إليه.
هذه أم الأكاذيب بامتياز من حيث أنها خليط من الغش والدعاية السوداء في آن واحد. إذ ليس صحيحا أن الفلسطينيين هزموا وانه لم يعد أمامهم سوي التسليم والانبطاح. ذلك أن الهزيمة في معارك التحرير تقاس بمقدار انكسار إرادة المقاومة واليأس من المضي في طريق النضال. وتلك خبرة التاريخ التي لايستغرب إنكارها من قبل المهزومين أصلا والمنبطحين ابتداء. الذين يشكون ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب وهم يشيرون إلي ما حل بالضفة الغربية وما جري في جنين وأخواتها. والسؤال البسيط الذي يطرحه هذا المشهد هو: إذا كان الفلسطينيون أنفسهم لم يشكوا ولم يسلموا بالهزيمة فلماذا تتطوعون انتم بالشكوي والنواح نيابة عنهم ولماذا تسارعون إلي نعي انتفاضتهم في الصحف؟!
لا الفلسطينيون هزموا ولا شارون انتصر. وإذا لم تصدق الشق الأول فإليك هاتين القصتين: نشرت الصحف أن أم الطفل محمد الدرة الذي رأينا بأعيننا كيف قتله الإسرائيليون بينما كان سائرا مع أبيه هذه السيدة التي فجعت في ابنها الأول حامل الآن في وليد ثان وقالت لمن سألوها أنها تهدي هذا الوليد إلي شارون وتريده أن يلحق بأخيه شهيدا. وقبل أيام قرأنا قصة أم نضال والدة الشاب محمد فرحات الذي اخترق الحواجز الأمنية “الإسرائيلية” ونجح في تنفيذ عملية استشهادية في مستوطنة بجنوب غرب غزة قتل فيها5 مستوطنين وجرح اكثر من عشرين. حسب البيان الرسمي “الإسرائيلي” . هذه الأم لها ابن مطارد وثان معتقل بعد أن فشلت عملية فدائية كان ينوي القيام بها ابنها الثالث محمد سار علي درب اخوته وأطلع أمه علي الخطة التي يعتزم تنفيذها فلم تلطم خديها وتصرح طالبة منه أن يكف عن التهور والاندفاع لكنها قبلت باختياره وكتمت مشاعرها. وقبل العملية التي كلف بها التقطت معه الصور التي سجلها الفيديو. وفي اليوم المعلوم أوصلته إلي الباب وهي تدعو له بالتوفيق وبأن يرزقه الله الشهادة ثم جلست في البيت إلي جوار المذياع تنتظر سماع نجاح العملية واستشهاده( الشرق الأوسط6/5).
بالله عليكم إذا كانت تلك الروح مازالت باقية بين الأمهات الفلسطينيات هل يمكن أن يقال إن الفلسطينيين هزموا؟
ليست هذه نماذج استثنائية ولا أستطيع أن ادعي أن كل أم فلسطينية تفكر علي ذلك النحو ولكن أم محمد وأم نضال تعبير عن روح سائدة في المجتمع الفلسطيني ل اسبيل إلي إنكارها وهي تكذب وتنسف من الأساس مزاعم الهزيمة والانكسار التي يلح البعض علي إشاعتها بين الناس لأهداف تفتقر إلي البراءة.
لست في مقام تقييم حصاد الانتفاضة فلذلك حديث آخر لكني الفت النظر إلي عنصر واحد في المشهد أحسبه لم يعد محل خلاف فلسطينيا أو عربيا وهو أن الانتفاضة الراهنة أعادت الاعتبار إلي خيار المقاومة المسلحة للاحتلال ودفعت كل الفصائل الفلسطينية إلي استعادة برنامجها العسكري الذي كان البعض قد تخلي عنه. ليس ذلك فحسب وإنما أصبحت العمليات الاستشهادية في مقدمة أساليب النضال الوطني الفلسطيني ولم تعد مقصورة علي المقاومة الإسلامية دون غيرها.
حدث ذلك بعدما أدرك الجميع أن ذلك هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يردع “الإسرائيليين” ويوصل إليهم رسالة الإيلام والوجع.
أتحدث هنا عن الشعب الفلسطيني الذي اختبر في جنين وبدا شامخا وصلبا وعملاقا وليس عن السلطة التي كانت في رام الله وتم اجتياح المدينة والاستيلاء عليها دون مقاومة تذكر. ذلك أن الشعب هو الذي يهمنا بالدرجة الأولي وصواب موقفه وقوة إرادته واستعداده اللا محدود للبذل والتضحية دفاعا عن الكرامة والحلم هو ما نستحضره ونلفت النظر إليه في اللحظة الراهنة
(2)
أحد اشهر العناوين المغشوشة التي تسوق هذه الأيام في الدعوة إلي إصلاح السلطة الفلسطينية وهي الدعوة التي خرجت هذه المرة من تل أبيب وواشنطون ثم أصبحت مطلبا عاما يجري الاستجابة له فلسطينيا.
وقد كنت أحد الذين توجسوا منذ رددت هذه الدعوة ألسنة المسئولين “الإسرائيليين” والأمريكيين وتذكرت علي الفور مقولة الشيخ البشير الإبراهيمي أحد رواد النهضة في الجزائر الذي كان يكن كراهية عميقة للاحتلال الفرنسي. إذ نقل عنه ذات مرة قوله: والله لو قالوا لا اله إلا الله لنبذناهم أيضا( يقصد الفرنسيين بطبيعة الحال). وكما انه لم يظن بهم أو يتوقع منهم خيرا كذلك الحال مع “الإسرائيليين” والأمريكيين الذين لا يتصور أحد أنهم حرصوا ذات يوم علي إصلاح السلطة الفلسطينية. وقد فضحهم قبل أيام( في6/2) آلان جريش رئيس تحرير لوموند دبيلوماتيك( الفرنسية) حين كتب قائلا إن التقصير الصارخ في مجال حقوق الإنسان هو نتيجة السياسة التي اعتمدها المجتمع الدولي و”إسرائيل” اللذان طلبا من عرفات محاربة الإرهاب في مقابل إطلاق يده في كافة المجالات الأخرى. فقبل توقيع اتفاقات أوسلو( في93/9/13) قال إسحاق رابين إنه يفضل أن يتولي الفلسطينيون الحفاظ علي أمنهم في غزة وان يحكموها بـ:وسائلهم الخاصة بعيدا عن القانون وكافله. وفي عامي94 و95 كانت الولايات المتحدة هي من دعا إلي محاكم استثنائية فلسطينية لمحاكمة الإرهابيين.
أضاف آلان جريش قائلا: طيلة سنوات أوسلو لم تكترث الولايات المتحدة أو “إسرائيل” بسجل حقوق الإنسان في الضفة والقطاع كما لم تهتما بحسن الإدارة بينما كان التهريب والفساد يغذيان القنوات “الإسرائيلية” والفلسطينية علي حد سواء ثم تساءل: لم إذن هذا الاندفاع المفاجئ تجاه الإصلاح الفلسطيني؟
من المفارقات في هذا الصدد أن بعض عناصر النخبة الفلسطينية رفعت شعار الإصلاح في عام99 وأصدرت في9/27 من العام ذاته ما عرف ببيان العشرين الذي وقعه عدد من القيادات في الضفة وغزة كان بينهم تسعة من أعضاء المجلس التشريعي( أيده فيما بعد200 من الشخصيات السياسية والنقابية والأكاديمية الفلسطينية). كان عنوان بيان العشرين هو الوطن ينادينا. أما مضمونه فكان داعيا إلي إصلاح حقيقي يعالج الفساد والإذلال والاستغلال ويجنب الشعب الفلسطيني الاستسلام للمؤامرة التي تكشفت أبعادها في ثنايا عملية السلام.
آنذاك قوبل البيان بحملة قمع شديدة فتم اعتقال ثلاثة من الموقعين عليه وحددت إقامة ثالث(بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس السابق) وجرت محاولة اغتيال رابع هو معاوية المصري عضو المجلس التشريعي كما تعرض الموقعون علي البيان لحملة تشويه وتصفية سياسية حيث وصفهم أحمد عبد الرحمن الأمين العام لمجلس الوزراء الفلسطيني بأنهم فئة ضلت الطريق الوطني إلي حد الانحراف وأثيرت من حول الموقعين زوبعة في داخل المجلس التشريعي الذي طالب البعض فيه برفع الحصانة عن الأعضاء التسعة الذين كانوا بين الموقعين تمهيدا لتقديمهم إلي محكمة أمن الدولة.
آنذاك ولدت الدعوة إلي الإصلاح لكن العنوان أطل مرة أخري بعد ثلاث سنوات مبطنا شيئا آخر.
(3)
في البدء جري الحديث عن الدستور والانتخابات واستقلال السلطة القضائية وإعادة هيكلة السلطة للإيحاء بأن موضوع الإصلاح مأخوذ علي محمل الجد. فصدر قانون استقلال السلطة القضائية وكثر الكلام عن الخطوات الأخرى التي تلبي الرغبة في الإصلاح المنشود. ثم انكشف الغطاء فجأة وتبين أن جوهر الموضوع هو تعدد الأجهزة الأمنية وكيفية ضبط حركتها والسيطرة عليها لكي تقوم بمهمة أساسية هي: إحكام الحصار حول المقاومة
صحيح أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعددت وتضخمت حتى لم يعد يعرف عددها علي سبيل الحصر. فمن قائل أنها عشرة وقائل أنها14 وذهب الأمريكيون إلي القول بأنها ليست عشرة أو14 وإنما34 جهازاً لكن هذه علي سوئها تظل في النهاية مشكلة فلسطينية وليست “الإسرائيلية” أو أمريكية. وما يهم الأخيرين ليس عدد الأجهزة وإنما وظيفتها التي يراد لها أن تكمل الدور الذي تقوم به الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” . بسبب من ذلك فإن أهم المشاورات التي جرت تحت اسم الإصلاح كانت تلك التي شارك فيها مسئولو أجهزة المخابرات في الدول المعنية وعلي رأسها الولايات المتحدة وذلك وحده كاف في الكشف عن حقيقة ومدي المصلحة “الإسرائيلية” في العملية.
في هذا الموضوع هناك الكثير من التفاصيل وهناك لغط أكثر لكن الجوهر ظل واحدا ورغم أن ما يريده الأمريكيون “والإسرائيليون” ليس بالضرورة هو ما يمكن أن يقبل به الرئيس عرفات الذي رفض اكثر من مرة فكرة أن يقوم بدور انطوان لحد قائد ما سمي بجيش لبنان الجنوبي في حماية “إسرائيل” من هجمات حزب الله إلا أن المدى الذي يمكن أن يقبل به غير معروف حتى الآن. مع ذلك فالقدر المتيقن أن المخابرات المركزية الأمريكية هي صاحبة اليد الطولي في هذا الملف بالذات. ثم إن هناك شكوكا وقلقا مشروعا في أوساط النخبة الفلسطينية مما يمكن أن يسفر عنه الإصلاح في هذا الصدد خصوصا بعد التنازلات بعيدة المدى وغير المعهودة التي قبل بها الرئيس الفلسطيني في صفقة فك حصاره في رام الله( محاكمة المتهمين بقتل رحبعام زئيفي والقبض علي زعيم الجبهة الشعبية أحمد سعدات وتسليمه لسجانين بريطانيين وأمريكيين ثم إقرار مبدأ إبعاد13 فلسطينيا خارج وطنهم وإدانة المقاومة رغم استمرار الاجتياح “الإسرائيلي” والقبول بالتراجع عن تشكيل لجنة تقصي حقائق ما جري في جنين).
قال لي بعض من أعرف من الفلسطينيين في غزة أن تمرير مثل هذه الأمور التي يحدث بعضها لأول مرة يثير العديد من التساؤلات حول مدي قدرة القيادة الفلسطينية علي الصمود في مواجهة الضغوط وعملية الابتزاز التي يتعرض لها وهو مالا يبعث علي التفاؤل بصدد الدور الذي ستقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل عام في المستقبل إذا ما سارت الأمور علي النحو المخطط له.
لقد شاء ربك أن يفتضح أمر الإصلاحات أكثر وأكثر بعدما صدر قانون استقلال السلطة القضائية حين قررت المحكمة الفلسطينية الإفراج فورا عن أحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لاحتجازه بدون وجه حق ولكن السلطة لم تستجب للقرار الذي أصدره القضاء الذي استقللتوه واستندت في ذلك إلي ذرائع أمنية.في هذا النموذج انضم مصطلح الإصلاح إلي قائمة العناوين المغشوشة التي جري صكها لأجل التدليس والغش والتي من اشهرها مصطلح الاستعمار المشتق من العمران والمسكون بمعني النماء حيث يبدو جليا أن المراد الحقيقي بالإصلاح في هذه الحالة هو الإلحاق والاستتباع.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
مواجهات واعتقالات باقتحام الاحتلال مدن الضفة
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلاماندلعت مواجهات مع قوات الاحتلال "الإسرائيلي" في عدة مناطق من الضفة الغربية -الليلة الماضية وفجر اليوم الجمعة-...
حماس تدعو للحشد والرباط في الأقصى لإفشال مخططات اقتحامه
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام دعت حركة حماس جماهير شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل إلى الحشد والنفير، وشدّ الرّحال...
حصار واشتباكات .. عدوان إسرائيلي واسع على مخيم نور شمس في طولكرم
طولكرم - المركز الفلسطيني للإعلام تواصل المقاومة تصديها لاقتحام قوات الاحتلال "الإسرائيلي" مخيم نور شمس في طولكرم المتواصل منذ قرابة 12 ساعة....
تخوفات إسرائيلية من أوامر اعتقال دولية لنتنياهو
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت القناة الـ12 الإسرائيلية إن مسؤولين إسرائيليين يخشون أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أوامر اعتقال...
إسرائيل تشن عدوانًا على إيران ودفاعات الأخيرة تتصدى
طهران - المركز الفلسطيني للإعلام وجه كيان الاحتلال "الإسرائيلي" عدوانًا فجر اليوم الجمعة، على إيران، في حين تصدت الدفاعات الجوية الإيرانية للعدوان....
حماس تدين فيتو واشنطن ضد نيل فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أدانت حركة حماس، استخدام واشنطن حق النقض الفيتو في وجه مشروع القرار الذي قدمته الجزائر نيابة عن المجموعة العربية،...
بدران: أمريكا منحازة للاحتلال وسنواصل الدفاع عن شعبنا ولن نستسلم
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد عضو المكتب السياسي لحركة حماس حسام بدران أنّ الجانب الأمريكي منحاز وغير جاد في الضغط على نتنياهو لوقف عدوانه...