الجمعة 26/أبريل/2024

نداء الأرض المحتلة

نداء الأرض المحتلة

أضاف دخول الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بهذه الدرجة من الجسارة، أضاف لطمة جديدة الى الغرور والصلف “الإسرائيليين”، وبعث الى الجميع برسالة مدوية تقول إن المذابح اليومية وعمليات التركيع لن تثني الشعب الفلسطيني عن عزمه في الدفاع عن حريته وكرامته. وها هي المقاومة الفلسطينية بشتى فصائلها وجهت خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة لطمات عنيفة باغتت “الإسرائيليين”بضراوتها وبراعتها، وأثارت الانتباه بشدة، من حيث إنها كانت بمثابة نقلة من موقع رد الفعل الى الفعل، ومن الدفاع الى الهجوم، على نحو لقن “الإسرائيليين” دروسا لم يألفوها أربكت قياداتهم وألقت في روع جنودهم خوفا ظل مستبعدا من خيالاتهم.

أترك الاستطراد في هذه النقطة الى شهادة أحد الصحافيين العرب في تل أبيب، نظير مجلي، الذي نشرت له صحيفة “الشرق الأوسط” في 5/3 تقريرا يلقي ضوءا قويا على الأصداء “الإسرائيلية” للجسارة التي أبدتها عناصر المقاومة الفلسطينية، وفيه قال إن القادة العسكريين في “إسرائيل” يشعرون بأن الفلسطينيين يضربون في الصميم هيبة الجيش “الإسرائيلي” الذي يرددون، جيلا بعد جيل، أنه الجيش الذي لا يقهر، وأنه أقوى وأفضل خمسة جيوش في العالم. وعند بداية الانتفاضة، في زمن حكومة ايهود باراك، كانوا يبررون نجاح بعض العمليات الفلسطينية بالادعاء بأن الحكومة تكبل أيدي الجيش. وفي تلك الفترة ارتفع شعارهم <<دعوا الجيش ينتصر>>. وتبنى زعيم المعارضة في حينه، ارييل شارون، هذا الشعار وراح يستند إليه في حملته الانتخابية ضد باراك ويغدق بالوعود بأن ينجح هو مع الجيش في تحقيق الانتصار على الفلسطينيين.

 وبعد مرور سنة على فوز شارون في الانتخابات، لم يحقق الجيش ذلك الانتصار الموعود. بل على العكس، ارتفعت وتيرة المقاومة الفلسطينية وزاد عدد القتلى “الإسرائيليين”من جراء العمليات. وكان شارون قد زاد الطين بلة، قبل سبعة اشهر، عندما وبخ القيادة العسكرية لأنها لا تفلح في إعطاء الرد المناسب على العمليات الفلسطينية وراح يشرف بنفسه على العمليات الميدانية، وذلك باعتباره صاحب خبرة عسكرية طويلة. لكن كل تجارب الماضي واختراعات الحاضر، لم تمكن الجيش “الإسرائيلي”من صد العمليات الفلسطينية العسكرية الناجحة. بل لوحظ ان هناك تطورا عسكريا في مستوى هذه العمليات وجرأتها ونجاحها، خصوصا تدمير الدبابة الأكثر تطورا في العالم “ميركافا 3” وتصفية جميع الجنود المرابطين على حاجز عسكري محصن قرب رام الله قبل أسبوعين واقتحام عدة مستوطنات محصنة، وإطلاق الصاروخ الفلسطيني “قسام 2”. وقد أثار نجاح هذه العمليات نقاشا واسعا في “إسرائيل” عموما، ونقاشا حادا داخل الجيش. وراحوا يفتشون عن أسباب هذا النجاح في مجالات التفافية على الحقيقة. فتارة يقولون إن الجنود أهملوا، وتارة يقولون إن الصدفة أتاحت هذا النجاح.

غير أن ما سبق في كفة، والعمليتان العسكريتان المذهلتان اللتان تمتا يومي 3 و4 مارس/ آذار الحالي في كفة أخرى. ذلك أنهما أحدثتا دويا مصحوبا بصدمة كبيرة داخل الجيش “الإسرائيلي”.

أدري أن الحكومة “الإسرائيلية” لم تُدِر للفلسطينيين خدها الأيسر، وإنما حاولت أن ترد الصاع صاعين، فشددت من حملاتها الانتقامية الأمر الذي أدى الى إغراق فلسطين كلها في بركة من الدم.

في 5/3 نشرت صحيفة “يديعوت احرونوت” مقالا تحت عنوان: سنرد على الذبح بالذبح، ويجب أن نضربهم حتى يتوسلوا لنا لوقف إطلاق النار. وفي مستهل المقال أشارت الصحيفة الى أن المقولة الواردة في العنوان وردت على لسان أحد الوزراء “المعتدلين” بعد يوم صعب سقط فيه 22 قتيلا من الجانب “الإسرائيلي”. وأنه في ذلك الاجتماع تنافس الوزراء في وصف الرد المضاد. ومما قاله شارون في هذا الصدد <<علينا أن نضربهم ضربات مؤلمة جدا، وبصورة متواصلة الى أن يستوعبوا حقيقة انهم لن يحققوا شيئا من طريق <<الإرهاب>>. وفي حديثه الى الصحافيين أضاف: في الوقت الراهن، إما نحن وإما هم.

وزير العدل مائير شطريت قال: لقد سئمنا، وانتهى الاعتدال (!) لذلك يجب أن نضربهم حتى يتوسلوا لوقف إطلاق النار. وزيرة المعارف ليمور ليفنات قالت: الحسم العسكري قبل كل شيء. فقط بعد ذلك يمكن أن نتحدث. وزير البنى التحتية افيغدور ليبرمان قال: يجب تقويض السلطة كلها وطرد عرفات، واعتبار كل قادة المنظمات الفلسطينية مخربين.

من الكتابات التي عبرت عن اللوثة التي أصابت النخبة “الإسرائيلية”من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية ما نشرته صحيفة <<هآرتس>> في 5/3 للمعلق العسكري زئيف شيف، وقال فيه: إن <<الانتحاريين>> ومرسليهم وأفراد عائلاتهم قد يكتشفون أن إسرائيل المتعرضة لضربات العنف ستنجرف الى ردود فعل عديمة الرحمة. ومن تلك الردود إلحاق الأذى بعائلة الفدائي (الانتحاري)، وليس فقط بأملاكها، (في العادة يهدم بيت الأسرة).
يتوارى المرء خجلا حين يشاهد على شاشات التلفزيون تظاهرات الاحتجاج ضد الوحشية “الإسرائيلية” في لندن وباريس وروما وموسكو، ولا يجد لمثل تلك التظاهرات أثرا في أي عاصمة عربية، باستثناء تظاهرة اللاجئين الفلسطينيين في عمان وتظاهر بعض طلاب الجامعات في مصر.

ويتضاعف الخجل حين نلاحظ انفعال الصحافي البريطاني فيل ريفز، في ما كتبه بصحيفة <<اندبندنت>> محتجا على صمت العالم الغربي و”وقوفه موقف المتفرج بينما الفلسطينيون يموتون ويسحقون من جانب “إسرائيل”. ويتحول الخجل الى شعور بالخزي حين يلاحظ المرء أن بعض صحفنا ومحطاتنا الفضائية العربية تعاملت مع المشهد الفلسطيني بحياد مفجع. فاكتفت بتسجيل ما يجري على هذه الجبهة وتلك، من دون التزام بموقف معين، وكأن الصراع يدور في زائير أو كولومبيا. ويتواصل الشعور بالخزي حين تتحدث أصوات بعض الساسة في العالم العربي من ذات الموقف المحايد، الذي لا يرى مبررا للوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، وإنما يدعي الانحياز الى السلام فقط، أو ذلك الموقف الذي يحمّل الطرفين مسؤولية ما جرى ويجري من دون تمييز القاتل والقتيل، أو بين المجرم والضحية.

لا غرابة والأمر كذلك أن يدرك الفلسطينيون انهم في الحرب الشاملة التي تشن ضدهم الآن يقفون وحدهم، مكشوفي الظهر تماما، بغير أي سند أو ظهير على وجه الأرض. وربما كان ذلك حافزا إضافيا رفع من وتيرة الجسارة والاستبسال، حيث لم يعد هناك ما يعوّلون عليه عربيا أو دوليا. وإذ خيروا بين الإقدام مع الشهادة، وبين الكمون والموت تحت القصف، فقد كان طبيعيا أن يؤثروا الشهادة، وأن ينتظموا على دربها في طوابير لا نهاية لها، تنسج الحلم الآتي في غد غير منظور.

لا أحد يعرف الآن كم ولا كيف أو متى سيدفع العرب ثمن موقفهم المفجع، لكن القدر المتيقن أن محكمة التاريخ سيكون حكمها قاسيا على عرب هذا الزمان، ذلك أن عجزا بهذا القدر إزاء قضية مصيرية ومحورية في العالم العربي من ذلك القبيل، ليس له أن يمر بالمجان.

 نعم هناك أفكار وأوراق عربية متداولة في الساحة، لكن كل ما هو مطروح الآن يظل أدنى بكثير من الثمن الذي دفعه الفلسطينيون، ناهيك عن انه لا يرتقي الى مستوى الدعم الحقيقي لصمود الشعب البطل، إذ بعدما تجاوز عدد القتلى اكثر من 1500 شخص خلال 18 شهرا فقط، وبعدما تحولت الأرض المحتلة الى بركة دم، ولم يعد يرى في شوارعها سوى جنازات الشهداء، وبعدما عانت مرابعها من التجويع والترويع، بعد هذا كله، سيكون مهينا أن يصبح غاية المراد أن يسمح للرئيس عرفات بالسفر لحضور القمة العربية في بيروت، أو أن يجلس الفلسطينيون مع نفر من القتلة ومجرمي الحرب “الإسرائيليين”على طاولة المفاوضات في أي مكان. ثم إنه ازدراء ما بعده ازدراء أن تعلق الآمال والأبصار في نهاية المطاف بمبعوث أميركي يأتي لكي يبيع الوهم للعرب، بينما يقف بالكامل على الأرضية “الإسرائيلية”، هو وحكومته التي أوفدته.

والأمر كذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نداء أو رجاء الأرض المحتلة في الوقت الراهن، كما يأتي: لا تبخسوا الفلسطينيين حقهم، ولا تهينوا نضالهم وشهداءهم، فما دفعوه حتى الآن هو بالدقة عربون لحلم الاستقلال الذي انتظروه طويلا. ومن أراد أن يكون وفيا حقا لكل ذلك فليقف مطلبه عند شيء واحد لا يحوّل عنه بصره هو: إنهاء الاحتلال. أما ما دون ذلك فهو تصويب خارج الهدف، وثرثرة بعيدة عن جوهر الموضوع، وتشتيت يبدد الجهد ويميع القضية. أما الذين يعجزون عن الوقوف في المربع الصحيح او تبني لغة الخطاب المطلوبة، فليخدموا القضية بصمتهم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات