الخميس 28/مارس/2024

عندما تصبح فلسطين رغيفاً

عندما تصبح فلسطين رغيفاً

  صحيفة الخليج الإماراتية 30/9/ 2006

لم يكن خافياً في الاستراتيجية الصهيونية العمل على تحويل الشعب الفلسطيني إلى مجرد أفراد يبحثون عن لقمة الخبز، من دون أن يكون لديهم وعي جماعي أو تطلعات جماعية. وجود الشعب الفلسطيني، بالنسبة للصهاينة، كشعب يشكل أرقاً دائماً، وهمّاً ماثلاً، وهوية لا تنفك تطالب بحقوقها، وكان التفكيك عنواناً استراتيجياً يتم العمل نحو تحقيقه. حاولت “إسرائيل” ومن يؤيدونها توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية ودمجهم في المجتمعات العربية التي يوطّنون فيها لكي تنسى الأجيال حكاية فلسطين، لكن كل المشاريع التوطينية فشلت. وكان هناك أعداد الفلسطينيين الكبيرة التي بقيت في فلسطين المحتلة 48 وتلك التي وقعت تحت الاحتلال عام 1967 ليتم التخلص من بقائها الجماعي.

حاولت “إسرائيل” تذويب الفلسطينيين الموجودين على أرض فلسطين الانتدابية بوسائل مختلفة. بالنسبة لمن هم في الجزء المحتل 1948 عملت “إسرائيل” على تذويب هويتهم الدينية والقومية والتراثية، واتبعت سياسات من شأنها تفتيت نسيجهم الاجتماعي والأخلاقي وإبعادهم تماماً عن كل ما يشكل لهم رمزاً أو حافزاً نحو البقاء معاً. نجحت جزئياً بخاصة في أوساط الذين تعمدت تجهيلهم وطوعتهم اقتصادياً وحولتهم إلى عالة على مؤسساتها المالية والأمنية، لكن فشلها الجزئي ما زال ينبثق إلى رعب يحاصرها خاصة في أوقات الحروب. فوجئت “إسرائيل” بمدى الوعي الفلسطيني إبان حرب عام 1973، وحرب الخليج عام 1991، وحرب لبنان عام 2006 والانتفاضتين عامي 1987 و2001 حيث جاهر الفلسطينيون بتلاحمهم مع كل ما هو عربي.

فشلت “إسرائيل” في الجزء المحتل 1967 حيث لم تتمكن كل إجراءاتها القمعية والإغرائية من تحويل الفلسطينيين عن وعيهم الجماعي ومطالبهم الوطنية وتطلعاتهم القومية والإسلامية. وقد وجدت “إسرائيل” أن حدة المقاومة تزداد يوماً بعد يوم، وأن الجيل القادم أشد تمسكاً بجماعيته من الذي سلف.

لكن السياسة الفلسطينية أفسدت إلى حد كبير هذا الفشل “الإسرائيلي” وحولته جزئياً إلى نجاح وذلك عندما تخلت عن الثوابت الفلسطينية وقررت الاعتراف ب”إسرائيل” وإقامة علاقات معها وتوقيع اتفاقيات. كان من أبرز المطبات التي هوى فيها الوعي الجماعي الفلسطيني هو الاعتراف والتنسيق الأمني مع “إسرائيل” وفصل قضية الفلسطينيين في الضفة والقطاع عن قضايا الشعب الفلسطيني في كل مكان آخر. تساءل الفلسطيني العادي عن جدوى وعيه الجماعي إذا كانت القيادات الفلسطينية تخطو خطوات كانت مصنفة على مختلف الصعد بما فيها صعيد منظمة التحرير الفلسطينية بأنها تمثل تنازلاً عن القضية.

أخطر ما برز في الاتفاقيات مع “إسرائيل” هو الموضوع المالي الذي وضع لقمة خبز الفلسطينيين بيد أعدائهم الغربيين الذين يحرصون على “إسرائيل” ولا يكترثون بعودة اللاجئين. وقعت القيادة الفلسطينية اتفاقية باريس الاقتصادية التي تجعل الحركة المالية الفلسطينية بيد “إسرائيل”، وتضع الاقتصاد الفلسطيني البسيط تحت رحمة الحركة التجارية العالمية التي لا ترحم صغار المنتجين والفقراء، ووافقت على فتح مؤسسات مالية مثل البورصة والمصارف لتجعل من المال الفلسطيني هدفاً يسهل استنزافه. ومن ثم طمعت القيادة الفلسطينية بأموال الدول المانحة التي ستتدفق إلى جيوب الفلسطينيين من دون عناء أو تعب.

تم التحذير من قبل أناس كثر، كنت أنا من بينهم، من هذا الاتفاق وهذا الطمع على اعتبار أن الذي يستند إلى غيره في لقمة خبزه لن يشبع إلا ذلاً، وأن الدول الغربية ستغلق حنفية المال في حال غضبت على الفلسطينيين أو لم ترق لها بعض سياساتهم. لم تكن هناك أذن صاغية، وعملت القيادة الفلسطينية على ضرب الإنتاج الفلسطيني من خلال تشجيع الاستيراد، ورفعت من أعداد الموظفين الذين يتقاضون رواتب من الغرب؛ وقد فاقت أعداد الذين عطلتهم عن أعمالهم الإنتاجية أعداد الذين وظفتهم، وعلماء الاقتصاد يعرفون الأخطار المترتبة على ذلك. هكذا اقترفت القيادة الفلسطينية خطيئة مزدوجة: عطلت الإنتاج الذي يشكل اعتماداً على الذات، ورفعت من اعتماد الفلسطينيين على الأوروبيين والأمريكيين.

فازت حماس في الانتخابات فحلت أسباب عقاب الفلسطينيين مالياً. لا يستطيع أحد أن يلوم شخصاً عادياً سعى للحصول على وظيفة في زمن عزت فيه الوظائف والأشغال والأعمال، ومن حق الموظفين أن يطالبوا برواتبهم. لكن الخطر الذي يتهدد الشعب الفلسطيني الآن هو تلبية مطالب الدول الغربية و”إسرائيل” لقاء رغيف الخبز. إذا استكان الفلسطينيون فإن الفلسطيني العادي سيدرك أن إرادته الانتخابية قد أصبحت بيد الممولين، وسيدرك الممولون أن الشعب الفلسطيني يخضع للضغط المالي ومن الممكن التطاول عليه بالمزيد.

الضائقة في فلسطين الآن أشد وطأة من رغيف الخبز لأن الإرادة السياسية الفلسطينية على المستويين الجماعي والفردي على المحك. هل ستتقلص القضية الفلسطينية إلى مجرد رغيف خبز فيخضع أهل فلسطين ويقبلون مساومة اللقمة بالحقوق الوطنية؟ أم هل سيصمد الشعب ويقرر إقامة نظام من التكافل والتضامن مع البحث عن منافذ لإدخال أموال بطريقة أو بأخرى؟ هل سنرى سياسة اقتصادية فلسطينية جديدة تركز على عرق الجبين وإحياء ما تعطل من ورش ومعامل ومزارع، أم ستبقى الحكومة الفلسطينية الحالية غارقة في عزل نفسها عن الجمهور وتائهة في قلة حيلتها؟

هذه محطة فلسطينية صعبة جداً بخاصة أنها تتواكب مع انفلات أمني في الضفة والقطاع، وبنسيجين اجتماعي وأخلاقي مهشمين. غابت عن الفلسطينيين الكثير من الحكمة في السنوات السابقة مما أثر في الوعي الجماعي، فهل سنشهد ردة إلى ذلك الوعي الذي يشكل الحصن المنيع أمام مختلف السياسات التفتيتية؟ لقد خاض الفلسطينيون تجارب مؤلمة عبر السنوات وخرجوا منها، ولا أرى أن السيرة التاريخية ستتبدل هذه المرة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

عباس يصدق على تشكيلة حكومة محمد مصطفى

عباس يصدق على تشكيلة حكومة محمد مصطفى

رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام صدق رئيس السلطة محمود عباس على منح الثقة لحكومة محمد مصطفى، وسط استمرار تجاهل موقف الفصائل الفلسطينية التي...