الثلاثاء 16/أبريل/2024

عنصرية بحماية أمريكية

عنصرية بحماية أمريكية

بات ملف حقوق الإنسان في مقدمة الملفات التي تهتم بها عشرات المنظمات الدولية، كما دخلت على الخط عشرات المنظمات المحلية ومئات بل وآلاف المنظمات الإقليمية التي تجعل من حماية حقوق الإنسان ميدان عملها الرئيسي، وبات هذا الموضوع على أهميته القصوى أحد أبرز الأوراق التي تستخدمها قوى كبرى في الضغط وتضييق الخناق على دول عديدة تنتمي إلى العالم الثالث، بل إن الأوراق تستخدم أيضاً ضد دول كبرى ومتوسطة في النظام الدولي، ومن قبيل ذلك إثارة قضايا حقوق الإنسان في روسيا الاتحادية والصين الشعبية.

 

وبمرور الوقت اتسع مجال نشاط المنظمات العاملة في ميدان حقوق الإنسان وبات يشمل طائفة جديدة من الاهتمامات زاد من أهميتها ضخامة الأموال الموجهة إلى دعم نشاط المنظمات العاملة في هذا الميدان، بل إن الأمر وصل في حالات عديدة إلى تشجيع وتقوية منظمات محلية على العمل في مواجهة حكوماتها الوطنية، وبحيث بات كثير من الحكومات تخشى تقارير هذه المنظمات التي كانت تستخدم أحياناً- في عملية محاسبة حكومات من العالم الثالث.

 

وبمرور الوقت تطور العمل في ميدان حقوق الإنسان، ورويداً رويداً بدأ مجال العمل يقتطع الكثير من دائرة اختصاص الدولة وسلطتها الوطنية بحيث بات المجال يتضمن العمل على حماية “الإنسان” في مواجهة ما قد يعتبر تعسفاً من حكومته لاسيما إذا ما اتخذ العمل الحكومي الشكل المنظم ووجه بالأساس إلى قطاع من المواطنين على أسس عرقية أو لغوية أو دينية، وفي هذا السياق جاءت الدعوة لتغيير مفهوم سيادة الدولة، حيث رأى البعض أن مفهوم سيادة الدولة في شكله التقليدي بات يقف حائلاً أمام قدرة المجتمع الدولي على التدخل لحماية الإنسان وحقوقه في مواجهة الدولة التي يحمل جنسيتها، ومن هنا ظهر مفهوم “حق التدخل الإنساني” والذي يعطي للمجتمع الدولي الحق في التدخل العسكري في بلد ما من أجل وقف عمليات قتل جماعي أو تطهير عرقي أو سياسة تمييز حادة ضد طائفة من السكان في البلد المستهدف. وجرى تطبيق هذا المفهوم في العديد من الحالات من بينها البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية.

 

وعلى الرغم من كل هذا التطور في الميدان القانوني والسياسي والتدخل العملي في العديد من الحالات، فقد بدا واضحاً ومنذ مرحلة مبكرة أن التطور النظري والتطبيقات العملية كانت موجهة لخدمة السياسة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وذلك بالعمل على دعم ومساندة وحماية نظم الحكم الحليفة للولايات المتحدة، وفي نفس الوقت تقديم حجج ومبررات قانونية أو سياسية تبرر للولايات المتحدة طلب تدخل المجتمع الدولي، أو الترخيص لها بالتدخل.

 

وعلى الرغم من أهمية بل وحيوية كل تطور قانوني وضرورة كل جهد دولي هادف إلى حماية حقوق الإنسان والدفاع عن حقوقه الأساسية بصرف النظر عن اللون والعرق واللغة والدين، إلا أنه كان واضحاً أن الولايات المتحدة تعمل على استثمار حقوق الإنسان وما تفرع عنها من حقوق مثل “حقوق الأقليات، المرأة، الطفل..” من أجل تحقيق مصالحها السياسية ودعم ومساندة الدول الحليفة لها في جميع الأحوال. وبدا واضحاً على سبيل المثال أن الولايات المتحدة تعمل على استثناء “إسرائيل” من الحساب وفق هذه المنظومة، فـ”إسرائيل” التي تحتل أراضي الشعب الفلسطيني وأراضي من سوريا ولبنان، وتمارس أبشع سياسات التفرقة العنصرية ضد أصحاب البلاد الأصليين الذين بقوا في أراضيهم وحملوا الجنسية “الإسرائيلية”، كما كان واضحاً أن الولايات المتحدة عملت على توفير الحماية القانونية وأيضاً السياسية الدولية لـ “إسرائيل” في مواجهة أي محاولة للمحاسبة أو التعرض للإدانة. ونذكر هنا على سبيل المثال استخدام الولايات المتحدة لحق النقض -الفيتو- في مجلس الأمن الدولي عشرات المرات لحماية “إسرائيل” من الإدانة أو مطالبتها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية. وقد تجلى ذلك بوضوح في أكثر من قضية جوهرية منها استثناء “إسرائيل” من الانضمام إلى المعاهدات الدولية الخاصة بالحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، بل وحماية ترسانة السلاح “الإسرائيلية” التي تشمل كافة أنواع أسلحة الدمار الشامل.

 

أكثر من ذلك عملت الولايات المتحدة على تحديد موقفها من تطور القانون الدولي على النحو الذي يخدم مصالح “إسرائيل” ويوفر لها الحماية، وبدا واضحاً في هذا المجال أن واشنطن قدمت في أحيان كثيرة اعتبارات حماية “إسرائيل” من العقاب الدولي، على تطور القانون الدولي وفي أحيان أخرى على حساب صورة الولايات المتحدة في العالم، بل ومصالحها في مناطق كثيرة من العالم. ونذكر في هذا المجال كيف أن الولايات المتحدة التي طالبت كثيراً بضرورة تطوير حق التدخل الدولي والإنساني وتشكيل محكمة دائمة لمحاكمة مجرمي الحرب حتى يمكن ضمان محاكمة كل من ينتهك حقوق الإنسان، بدلا من انتظار قرار من مجلس الأمن لتشكيل محاكم على غرار رواندا ويوجوسلافيا، على الرغم من ذلك، فقد رفضت  الولايات المتحدة  المصادقة على الميثاق الأساسي لمحكمة جرائم الحرب التي دخلت حيز التنفيذ في يوليو/تموز من العام الماضي.

 

وعند النظر إلى الأسباب التي حالت دون تصديق الولايات المتحدة على ميثاق المحكمة الدائمة، نجدها في الإجمال أسبابا تعود إلى “إسرائيل” أكثر من كونها ترجع إلى مصالح أمريكية حقيقية، فالميثاق الذي يصف الاستيطان بأنه جريمة حرب ويرى في المستوطنين مجرمي حرب، بات غير مقبول “إسرائيلياً”، وبالتالي أمريكياً، كما خشيت الولايات المتحدة من أن يستخدم ميثاق المحكمة لمحاكمة عسكريين ومدنيين أمريكيين و”إسرائيليين” نتيجة ارتكاب جرائم في أنحاء مختلفة من العالم، وعلى الرغم من التعديلات العديدة التي تم إدخالها على ميثاق المحكمة، فقد رفضت واشنطن التصديق عليها، وعندما توافر الحد الأدنى المطلوب لسريان الميثاق، اتجهت واشنطن إلى توقيع اتفاقات ثنائية مع أكبر عدد ممكن من الدول لعدم تطبيق ميثاق المحكمة على مواطني البلدين الموقعين، وبالطبع كانت “إسرائيل” في طليعة الدول التي وقعت معها واشنطن اتفاقاً ينص على استثناء مواطني البلدين من المثول أمام المحكمة، مستغلة في ذلك تعديلاً وضعته الولايات المتحدة في مرحلة مبكرة من المناقشات، ينص على أن ولاية المحكمة لا تشمل الدول غير المصدقة عليه أو التي تتفق على عدم الاحتكام إليها.

 

ونتيجة الحماية الأمريكية المتواصلة لـ “إسرائيل” واستثنائها من تطبيق قرارات الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، باتت “إسرائيل” دولة “فوق القانون الدولي”، أكثر من ذلك باتت الدولة العنصرية رقم واحد في العالم، وربما الوحيدة التي تتبع سياسات عنصرية بل وتشرع قوانين عنصرية بعد تهاوي نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا منذ نحو عقد من السنوات.

 

و”إسرائيل” التي لا تمتلك دستوراً مكتوباً، تعتمد على إصدار مجموعة من القوانين الأساسية كبديل للدستور وتحرص على تأكيد أنها دولة يهودية، الأمر الذي يعني أن غير اليهود لا يمكن أن يكونوا كاملي المواطنة. وفي الوقت الذي أصدرت فيه “إسرائيل” قانون “العودة” الذي يعطي لليهودي الجنسية “الإسرائيلية” بمجرد أن تطأ قدماه “أرض إسرائيل”، فإنها تحرم الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم التي طرودا منها، وترفض عودتهم أو أبنائهم.

 

وإذا كانت القوانين الأساسية تحفل بالأبعاد العنصرية، فإن المتابع لحركة التشريع في “إسرائيل” وما هو متبع من سياسات وسوف يستنتج  أن الميل العام إلى وقت قريب كان عبر التركيز على تكريس الحالة العنصرية المركبة على نحو غير مباشر، مثل ترتيب مزايا اقتصادية وتعليمية كبيرة على الخدمة العسكرية، وبما أن العرب لا يخدمون في الجيش “الإسرائيلي”، فإنهم محرومون من هذه المزايا. ومؤخراً وفي الوقت الذي تكثف فيه الحديث الأمريكي عن ضرورة احترام حقوق الإنسان والعمل على مواجهة كل حالات الإخلال بحقوق البشر، اتجهت “إسرائيل” إلى استصدار قوانين عنصرية تميز مباشرة بين المواطنين على خلفية الدين والعرق، ولعل من أبرز هذه القوانين ذلك الذي صادق عليه الكنيست، في قراءة ثالثة وأخيرة، في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز الماضي وينص على عدم أحقية سكان ومواطني “إسرائيل” ممن اختاروا زوجا/ زوجة من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة من العيش في “إسرائيل”، ويعني ذلك أن أي رجل من فلسطينيي 1948 يتزوج من فلسطينية تعيش في أراضي 1967، عليه أن يختار بين هذه الزوجة وبين الاستمرار في بيته وأرضه، أي أن الاختيار هو بين عدم الزواج أو الرحيل من الوطن.

 

والمؤكد أن قانوناً عنصرياً على هذا الوزن كان كفيلاً في حال صدوره في دولة أخرى بإثارة غضب الولايات المتحدة وتحركها المباشر وفرض عقوبات على هذه الدولة ونخبها السياسية، بل وإثارة الموضوع لدى كافة المنظمات الدولية المعنية، ورفعه إلى مجلس الأمن، وربما طلب الترخيص بالتدخل العسكري لإسقاط قانون عنصري يميز ضد طائفة من السكان.. ولكن لأن العنصرية هنا صناعة وحرفة “إسرائيلية”، فقد كان القرار الأمريكي، بصرف النظر عما يعلن أمام وسائل الإعلام، هو حماية هذه السياسة العنصرية بل ودعمها، ومن ثم تكون العنصرية “الإسرائيلية” بحماية أمريكية، فـ”لإسرائيل” الحق في اتباع ما تريد من سياسات عنصرية ولها أن تقنن هذه الممارسات في شكل قوانين عنصرية في زمن باتت فيه محاربة العنصرية وحماية الإنسان وحقوقه شعاراً أمريكياً.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات