الجمعة 26/أبريل/2024

يسألونك عن الجدار

يسألونك عن الجدار

لن تستطيع أن تدرك حجم الجريمة في إقامة الجدار “الإسرائيلي” إلا إذا رأيته بعينيك، حيث يتعذر على الكلمات أن تصف بشاعته، على الأقل فقد كان ذلك انطباعي حين رأيت مجسماً له قبل أيام قليلة، وهو ما جعلني اقتنع بأن الكلام حول العودة إلى التفاوض أو ما يسمى بخريطة الطريق هو من قبيل العبث الذي يستهلك الوقت ويشغل العرب بما لا طائل من ورائه، أو قل إنه مشهد الهزل في القصة. بينما الجد هنا في الجدار الوحشي.

(1)

 حين ذهب الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي إلى مسقط رأسه في رام الله بعد ثلاثة عقود من الغياب القسري، فإنه عاد ليخبرنا في كتابه “رأيت رام الله” بالخبر الأليم: إن كل ما كتب في الممارسات “الإسرائيلية” في الأرض المحتلة يقصر عن وصف الحقيقة التي هي بمثابة انقلاب شامل لا يكاد يبقي على شيء مما ودعته الذاكرة، وأحسب أنه ما كان له أن يقرب إلينا تلك الحقيقة لولا أن موهبته الشعرية الفذة أسعفته، ومكنته من أن يعالج قصور النثر في القيام بالمهمة.

أجدني في مواجهة ذات الموقف. ذلك أن ما قرأته عن الجدار شيء.. وما رأيته في مجسمه شيء آخر، فالجدار في التصور العادي حائط أسمنتي قد يكون شاهقاً، يفترض في التصور “الإسرائيلي” أنه يفصل “الإسرائيليين” عن الفلسطينيين، ويحجب عن الأولين غضب الآخرين، لكنه في الحقيقة شيء آخر فهو ليس حائطاً فقط ولا هو فاصل فقط ثم إنه ليس سياجاً أمنياً فقط كما يدعون.. كيف؟

نعم. ثمة جدار أسمنتي يصل ارتفاعه في بعض المناطق إلى ثمانية أمتار. أي أكثر من ثلاثة طوابق، لكن ذلك بمثابة لقطة واحدة من المشهد إذا جاز التعبير، لأننا إزاء منطقة عازلة بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين بعرض يتراوح بين 50 و60 متراً، ويفترض أن تمتد بطول 650 كيلو متراً، تم إنجاز 150 كيلو متراً منها (بدأ تنفيذ الجدار في 23 يونيو عام 2002، وكانت الحكومة “الإسرائيلية” قد أقرته بعد اجتياحها للضفة في شهر مايو/ أيار عام 2001).

الجدار ينتصب وسط المنطقة العازلة التي تتوزع على الجانبين الفلسطيني و”الإسرائيلي”. وفي كل جانب بعض التحصينات والترتيبات، تشغل مساحة تتراوح بين 25 و20 متراً. هي في الجانب الفلسطيني كما يلي: ثمة حاجز من الأسلاك الشائكة هي أول ما يصادفه الفلسطينيون. وخلف الحاجز خنادق يصل عمقها إلى أربعة أمتار للحيلولة دون مرور أي مركبات. وبعد الخنادق هناك طريق خشن خصص لاستخدام دوريات الجيش “الإسرائيلي” ويشرف على الطريق سياج من الأسلاك بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف. مجهزة بجهاز استشعار إلكتروني لاكتشاف أي دخيل. وخلف السياج ينتصب الجدار الأسمنتي.

في الجانب “الإسرائيلي” من المنطقة العازلة، ثمة تجهيزات أخرى تشغل ذات المساحة تقريباً. ثم حاجز آخر من الأسلاك الشائكة لكنه هذه المرة مزود بكاميرات استطلاع منتشرة على مسافات متقاربة تعمل على مدار الـ 24 ساعة. وهناك طريق مخصص لدوريات الشرطة “الإسرائيلية” محاذ للجدار ومواز للطريق الذي تتحرك عليه دوريات الجيش على الجانب الآخر.

بإقامة تلك التجهيزات على الجانبين، تصبح كلمة “جدار” اختزالاً خادعاً ومعيباً. من حيث إنها تهون من الأمر وتطمس حقيقته. ذلك أننا بصدد منطقة عسكرية عازلة تتجاوز بكثير حدود وإيقاع الكلمة، كما أن لها وظيفتها الأخطر والأبعد.

(2)

 هذه المنطقة العسكرية العازلة تمتد كثعبان وحشي ضخم يتلوى فوق الأرض الفلسطينية، ملتهما القرى والزراعات وممزقاً النسيج الاجتماعي الفلسطيني، لمن شاء حظهم العاثر أن يعترضوا طريقه من أي باب.. وليس صحيحاً أن المنطقة العازلة تفصل بين فلسطينيي 48 وتلك التي احتلت عام 67، لأن “الجدار” المزعوم يتوغل داخل الضفة الغربية ويؤدي عملياً إلى مصادرة 10% من أراضيها في حال اكتماله.

وحسب تقدير لوزارة الزراعة الفلسطينية (نشرته القدس العربية في 14/7) ففي المرحلة الأولى التي نفذت من الجدار (شملت 150 كيلو متراً فقط أي حوالي ربع المشروع) تمت مصادرة ما بين 160 إلى 180 ألف دونم من الأراضي (الدونم ربع فدان) تعادل 2% من مساحة الضفة، من جراء امتداد الجدار إلى عمق ستة كيلو مترات داخل المناطق المحتلة في عام 67. علماً بأنه في شمال الضفة أقيم فوق أهم المناطق المرورية والحيوية. وقد ترتب على إنجاز المرحلة الأولى ابتلاع 17 قرية فلسطينية وإدخالها ضمن “الخط الأخضر”. أي ضمها عملياً إلى دولة “إسرائيل”، كما ضم “الإسرائيليون” 10 مستوطنات كانت مقامة فوق الأراضي المحتلة عام 67.

من أجل إقامة المنطقة العازلة جرفت قوات الاحتلال ما مساحته 500.11 دونم، وقلعت 83 ألف شجرة، وصادرت 30 بئر مياه في محافظتي قلقيلية وطولكرم، معروفة بطاقتها التصريفية العالية، وهذه الآبار تم حفرها قبل عام 1967، وتقع في الحوض الجوفي الغربي. وذلك سيفقد الفلسطينيين أربعة ملايين متر مكعب من المياه، تمثل 18% من حصتهم في الحوض المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو. إضافة إلى ذلك، فقد أدى إنجاز المرحلة الأولى إلى تدمير البنية التحتية لقطاع المياه، من مضخات وشبكات الأنابيب الخاصة بمياه الشرب والري الزراعي، مما سيؤدي إلى فقدان بعض القرى الفلسطينية لمصادرها المائية بالكامل.

الدكتور عزمي بشارة، العضو العربي في الكنيست وصف الجدار بأنه تجسيد للوقاحة والقباحة الأسمنتية “الإسرائيلية” (الحياة اللندنية  3/7) التي داست بأقدامها مصالح ومصائر أكثر من 200 ألف فلسطيني. إذ بسبب الجدار تضرر بشكل مباشر 67 تجمعاً سكنياً فلسطينياً، حيث مس علاقتها مع أراضيها مصادرة أو عزلاً أو تخريباً. منها الـ 17 قرية التي فصلت عن أراضيها الزراعية غرب الجدار. ولا يجد أصحابها وسيلة للوصول إليها لفلاحتها. وهناك 19 تجمعاً سكنياً حشرت في التواءات الجدار بحيث أصبح سكانها في حيرة من أمرهم ذلك أنهم ليسوا ممكنين من الدخول إلى “إسرائيل” أو الذهاب إلى الضفة. وبالتالي فإنهم لم يعودوا يعرفون لأي سلطة يخضعون ناهيك عن انقطاعهم عن مصالحهم وسبل حياتهم.

(3)

 نحن إزاء عمل وحشي غير مسبوق، أبعد بكثير من جدار برلين، ومختلف إلى حد كبير عن نظام الفصل العنصري الذي عرفته جنوب أفريقيا، وعلى حد قول عزمي بشارة فإن سور برلين الذي رفض دولياً أكد الحدود بين سيادتين وفصل بالقوة أبناء دولة واحدة، أما الجدار “الإسرائيلي” الحالي فيؤكد سيادة واحدة يرافقها فصل عنصري يدافع عنها.

الكاتب الفلسطيني منير شفيق تحفظ على تشبيه فكرة الجدار بنظام الفصل أو العزل العنصري في جنوب أفريقيا “أبارتايد” (الحياة 4/8) وقال إن السبب المعلن لإقامة الجدار هو تحقيق الأمن لتأمين الداخل “الإسرائيلي”. لكن ذلك مجرد سبب واحد ضمن أسباب أخرى مهمة، منها مثلاً الاستيلاء على الحوض المائي الغربي الذي يقع تحت أراضي القرى التي فصل بينها وبين أراضيها. ذلك أن الدافع المائي بالنسبة إلى الاستراتيجية “الإسرائيلية” يسير جنباً إلى جنب مع دافع اغتصاب الأرض وتهجير سكانها الفلسطينيين، وقد كان هذا، دائماً، جزءاً أساسياً من الاستراتيجية والعمليات التكتيكية العسكرية “الإسرائيلية”، بما في ذلك تحديد مواقع المستعمرات قديماً والمستوطنات حديثاً.

بسبب من ذلك، فإن قصة التمييز العنصري (الأبارتايد) لا تمثل الوجه الرسمي للاستراتيجية الصهيونية في هذا الصدد، فالعنصرية الصهيونية ليست عنصرية أبارتايد (عزل)، وإنما اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وإلقاؤهم خارج الحدود ما أمكن، وهي عنصرية اغتصاب للأرض وما تحتها وما فوقها، بما في ذلك المدن والقرى المعمورة بعد تهجير أهلها، كما حدث وفقاً لاستراتيجية الوكالة اليهودية والهاجناة (الجيش) عام 1948/1949. ومن ثم فإن المقارنة بين “الأبارتايد” الذي مورس في جنوب أفريقيا وناميبيا يعفي العنصرية الصهيونية من أشد سماتها بشاعة، وهذه مختلفة نوعاً عن الأبارتايد في عالم العنصرية نفسها. ولا يفوق العنصرية الصهيونية إلا عنصرية البيض الأمريكيين الذين اغتصبوا الأرض وأبادوا سكانها في حين اشتركت العنصرية الصهيونية في سمة اغتصاب الأرض ومصادرة المدن والقرى والأملاك، واختلفت بالتهجير القسري بدلاً من الإبادة الشاملة. طبعاً مع استخدام المجازر المحدودة (إذا ما قورنت بالحالة الأمريكية) بقصد التنظيف “العرقي” من خلال التهجير وليس الإبادة.

فضلا عن هذا وذاك فإن الجدار يثبت حقائق جغرافية وسكانية تجعل من المستحيل التوصل إلى تسوية سياسية تلبي سقف الحد الأدنى فلسطينياً، ويلاحظ المرء في مسار الجدار أنه مرن تماماً، فهو يندفع شرقاً في قلب الضفة الغربية لكي يحيط بالمستوطنات اليهودية وما حولها من أراض فلسطينية لكي تصبح جزءاً لا يتجزأ من “إسرائيل”. وهم يستهدفون بالدرجة الأولى المستوطنات ذات الكثافة السكانية العالية. فمستوطنة “معالي أدوميم” مثلاً، التي تعد أكبر مستوطنة يهودية في الضفة الغربية يتم الآن إحاطتها بالجدار، لكي تضم إلى القدس وبذلك تصبح جزءاً لا يتجزأ من بلدية الاحتلال، وبهذه العملية تضرب حكومة شارون عصفورين بحجر واحد. ذلك أن ضم المستوطنة إلى بلدية الاحتلال إلى جانب أنه يعني إدخالها ضمن الدولة العبرية، فإنه أيضاً يساهم في تهويد القدس حيث يؤدي إلى زيادة عدد اليهود فيها بشكل كبير، وإقامة الجدار تتكامل هنا مع ما تهدف إليه خطة وزير الإسكان “الإسرائيلي” إيفي إيتام الذي كشف النقاب عنها أخيراً والتي تنص على دفع الآلاف من اليهود إلى قلب القدس الشرقية في خطوة قصد منها خلق واقع فيها يجعل من المستحيل فصل القدس الشرقية عن الغربية، وهنا يجدر الانتباه إلى أن “إسرائيل” تدعي دوماً أنه لا يحق لأحد الاعتراض على ما تقوم به في القدس على اعتبار أنها من قضايا الحل الدائم، لكن السياسة المتبعة حالياً في المدينة تعكس حقيقة واحدة بالنسبة إلى “إسرائيل” هي أن القضية حسمت تماماً ولا مجال لمفاوضات حقيقية وجدية حولها!

(4)

ثمة بعد آخر في المسألة لا نستطيع أن نتجاهله، يتمثل في أن فكرة الجدار لها صلتها أيضاً بالعقيدة الأمنية الراسخة على مدى التاريخ في الوعي اليهودي، فقبل مئات السنين كان المشهد ذاته، حيث انطلق اليهود يقيمون الجدران حول أريحا، ويجمع المؤرخون “الإسرائيليون” على أنه في الممالك التي أقامها اليهود كان الجدار من أهم ما يحرصون على إقامته حول مدنهم وتجمعاتهم السكانية، ومن الثابت أنه قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام حرص اليهود المقيمون حول المدينة على إقامة الجدران حول قراهم، لكي تصبح قلاعاً محصنة. وفي مطلع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان الصهاينة يقيمون الجدار حول مستوطناتهم. ويشير الكاتب “الإسرائيلي” يهودا ليطاني إلى أنه في العشرينات والثلاثينات أطلق

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة

الضفة الغربية - المركز الفلسطيني للإعلام اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني - فجر الجمعة- عددًا من المواطنين خلال حملة دهم نفذتها في أرجاء متفرقة من...