الخميس 25/أبريل/2024

دولة الاحتلال في شيخوختها

دولة الاحتلال في شيخوختها

تحتفل “إسرائيل” بعيد ميلادها الستين هذه السنة. والكيان الصهيوني، ظاهراً، صامد منيع في وجه كل القوى العربية المحيطة به. استطاع تحييد دولة عربية ذات شأن متميز هي مصر، إذ فاز باتفاق صلح معها في عام ،1979 ثم تمكن من تحييد قوة عربية مجاورة أخرى بعقد صلح مع الأردن في عام ،1994 فبقي من قوى المواجهة في الجانب العربي، إلى فلسطين، سوريا ولبنان.

جسّدت فلسطين وجه المأساة بأحلك صورة، ووجه البطولة بأبهى صورة.

فلسطين عنوان قصة فاجعة قلما شهد تاريخ الإنسانية نظيراً لها في فظاعتها. فبقرار من رأس الشرعية الدولية، مجلس الأمن، قُسّمت فلسطين ليقام على أرض عربية كيان يهودي. وما كان ذلك ليتحقق، وسط مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة، إلا باقتلاع عشرات الألوف من العرب من بيوتهم عنوة، وإحلال غرباء، وفدوا بأسلحتهم الفتاكة من أقاصي الأرض برعاية دولية فاجرة، ليحلوا محلهم فيها.

وما كان ذلك ليتم سلمياً. فكان الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني باهظاً، على حساب دماء أعداد لا تُحصى من هذا الشعب وأرواحهم، وتشريد مئات الألوف حلّوا لاجئين في مخيمات داخل الأرض المحتلة وفي أقطار عربية مجاورة. كانت الحصيلة مشهداً مأساوياً أفرخ أزمة مزلزلة كان الوطن العربي بأسره مسرحاً لها، فلم يسلم من تداعياتها المباشرة أو غير المباشرة شعب من شعوب هذه الأمة.

هذا وجه المأساة في فلسطين الذبيحة، أما وجه البطولة فيتجلى في صمود خارق للشعب المنكوب، فهو في مواجهة أعتى قوة في الشرق الأوسط، مدعومة من أعظم قوى العالم، لم يستسلم ولم يقنط بعد ستين سنة على نكبته، لا بل سطّر في سفر التاريخ صفحة مُضيئة من الصمود.

سقطت الأرض في يد العدو الغاشم ولم تسقط القضية على الرغم من كل ما تعرض له هذا الشعب الأبي من عنت على يد الإجرام التي كانت تطارده أنّى حل، وما ناله من جور الأنظمة العربية وإهمالها، وفي حالات مشهودة ما كان من تواطؤ من جانب بعض الأنظمة مع حاضني الصهيوني في المجتمع الدولي من الذين يرفعون زوراً شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه القيم التي تُعدّ من الثوابت في المقاييس الحضارية أُهدرت بلا هوادة في فلسطين على مرأى من العالم المتحضر وسمعه.

الشعب الفلسطيني رفض سوء المصير الذي شاءه له الصهيوني ومعه أعظم قوى العالم، ولو أن ذلك كله نُفذ باسم الشرعية الدولية، فعبّر هذا الشعب المناضل عن رفضه للواقع المفروض عليه بصموده العظيم، بمواصلة نضاله، بمقاومته العنيدة ولو بالأيدي العارية، ووقف المواطن العربي في كل مكان وقفة وفاء أمينة إلى جانب أخيه الفلسطيني، ففرضت فلسطين نفسها عنواناً لقضية العرب المركزية.

فكان من جراء هذا الواقع الأليم أن بقيت فلسطين ماثِلة في خلفية حالة من الاضطراب عمّت المنطقة العربية، كان من تجلياتها تظاهرات عارِمة وتحركات صاخِبة وانقلابات عسكرية متتالية وقلاقل قضّت مضاجع مسؤولين ما كانوا يوماً على مستوى المسؤولية القومية.

بعد ستين عاماً على ولادة الكيان الصهيوني، يظهر للعيان جلياً أن هذا الكيان العدواني لم يعد يتمتّع بالأمان ولا يشعر بالاطمئنان، بل هو يدرك أنه يقف على مفترق مصيري أمام تعاظُم مدّ المقاومة داخل فلسطين كما في الجوار العربي، وبخاصة في لبنان. اعتاد هذا الكيان الفاجر أن يحمي نفسه بالبطش، بقوة السلاح، بالإرهاب المتمادي الذي مارسه ويمارسه، إلا أن قدرة الشعب العربي على الصمود والتصدّي لم تكن في حسبان هذا العدو اللئيم.

ستون سنة مرّت ولم يستسلم الإنسان العربي، فإذا بالعدوان أمام مشهد جديد لم يكن يتوقعه. فبفضل المقاومة في فلسطين ولبنان وصمود الشعب العربي على العهد في كل مكان، يواجه العدوان اليوم تحوّلاً جذرياً في مسار الصراع العربي “الإسرائيلي” في غير مصلحة العدوان ومآربه التوسّعية. وذلك بعدما استيقن العرب أن جَبه العدو الصهيوني لا يكون بالحروب التقليدية بل بالمقاومة الشعبية. فقد أظهرت التجارب أن لا قِبَل للعرب بالتصدي للعدوان المتمادي بجيوش نظامية نظراً لتفوق الجيش الصهيوني بما يمتلك من أسلحة وعتاد وتكنولوجيا متطورة وإمكانات مادية هائلة، تمدّه بها أقوى دول العالم وأغناها. فجاءت المقاومة في فلسطين ولبنان لتفضح مواطِن ضعف هذا الجبّار المصطنع ووهنه.

المقاومة الوطنية لم تمكّن الاحتلال الصهيوني من البقاء طويلاً في عاصمة لبنان بيروت بعد احتلالها عام 1982، فكان عليه أن يُخليها بلا قيد ولا شرط، حاول أن يجني ثمناً باهظاً عبر اتفاق 17 أيار المشؤوم، إلا أن الشعب اللبناني سرعان ما لفظ هذا الاتفاق وأسقطه، واضطر الاحتلال إلى الجلاء عن الأرض اللبنانية في 25 مايو/ أيار عام 2000 من دون أي مقابل، فلم يبقَ في يده سوى مزارع شبعا التي كانت وما زالت تحكمها معطيات وظروف خاصة.

وسجلت المقاومة صموداً أسطورياً في وجه العدوان “الإسرائيلي” الماحِق إبّان حرب يوليو/ تموز 2006، فاعترف “الإسرائيلي” بهزيمته في واقع الحال عبر ما كان من مساءلات وتحقيقات حول مجريات تلك الحرب ونتائجها. واضطرت قوات الاحتلال إلى الجلاء عن قطاع غزة تحت ضربات المقاومة من دون محادثات أو اتفاقات، ولو أن السلطة الصهيونية ما زالت تمارس شتى ألوان العدوان والإرهاب على شعب غزة الباسل.

مع غلبة منطق المقاومة في الجانب العربي تبدّل وجه الصراع العربي “الإسرائيلي” ومجراه. فلم يعد “الإسرائيلي” يشعر بالاستقرار والأمان كما كان. وقد تولّد عن هذا الواقع المستجد معطيات لا تبعث الاطمئنان في نفوس المعتدين ومن هم وراءهم، من ذلك أن ميزان حركة الهجرة الوافدة والمغادرة، كما ميزان حركة أموال الاستثمار المستوردة والمصدرة، كلاهما أخذ ينحو منحى سلبياً من الزاوية “الإسرائيلية”، وهذا ينذر الكيان الصهيوني بأوخم العواقب مع الزمن.

“إسرائيل” أمست في الستين من عمرها أشبه بالشيخ الهرِم، أما العرب ففي حال مرضية تسمّى الشرذمة.

يبدو كأن الدول العربية متهافِتة على التوقيع على صلح مع العدو الصهيوني، بدليل ما يصدر عن بعض المسؤولين العرب من مواقف في هذا الصدد، وبدليل ما يدور على مستوى ما يُسمى مبادرة عربية للسلام. والضغط الأمريكي في هذا الاتجاه سرّ معلن. إننا نرى في أي حال ضرورة التركيز على حق العودة للاجئين، كل اللاجئين، إلى فلسطين، كل فلسطين في امتدادها التاريخي من البحر إلى النهر، بذلك يستعيد العرب بعض حقهم السليب. المهم ألا نؤخذ بمقولة “الحل العادل لقضية اللاجئين” التي قد تستبطن قبولاً بمبدأ توطين اللاجئين بعيداً عن ديارهم في مقابل تعويض ما.

ختاماً، إن تهافت الحكام العرب على التوقيع مع العدو يجب ألا يلزم الشعب العربي الذي يُفترض فيه أن يواصل مقاومته للعدوان ولو سلمياً، ولنا أن نتلمّس في المهاتماغاندي القدوة الحسنة، إذ كانت مقاومته الاحتلال البريطاني للهند سلمية، غير مسلحة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات