الجمعة 19/أبريل/2024

المقاومة المسلحة.. وبوارق الأمل

المقاومة المسلحة.. وبوارق الأمل

صحيفة القدس العربي اللندنية

عندما يتألّم البشر والأرض تحت وطأة احتلال قاهر، ويتمّ تغييب الحقوق، لا بدّ أن تتوفّر إرادة صادقة للإجابة على سؤال البقاء والاستمرار والتحدّي.. غير أنّ سؤالاً آخر ينبت على حواشي الواقع: هل بإمكاننا صياغة معادلة واضحة تقول: إنّ استمرارية المقاومة الفلسطينية يُراد منها مواجهة الخداع ورفض محاولات إسباغ الوهم على الحقيقة؟ وبسؤال مغاير أقول: هل بإمكاننا الآن.. وهنا، وفي ظل واقع يرفض الخديعة تغطية الشمس بالأصابع ومواصلة تكريس وهم يؤسس لسلام بائس أفرزته ثقافة التسوية؟! أم أنّ الواقع يؤشر إلى إمكانية الانتفاض على هزيمة – يراد لها أن تكون أبدية – طالما هناك شعب مستعدّ للتضحية في سبيل استرداد حقوقه المستلبة..

سأصارح:

يتدفّق خضاب الدّم بغزارة.. تتقدّم قوافل الشهداء صوب القبور، ويرتفع في المقابل – نباح- الرشاشات، و- نعيق- المدافع، ويتواصل سقوط الأبطال دون انقطاع، وخلف خطوط الانكسار نقبع جميعاً في وجل، نتلمّس أوجاعنا.. نخبئ في عيوننا قهرنا القاتل.. ونردّد كلمات بالية لم نعد نعرف أن نكتبها: هل الواقع مرعب إلى هذا الحد؟ هل الوعي متغيّب إلى هذا المستوى، أم أنّ التأخّر أضحى هبة التاريخ للأمة العربية والإسلامية ومانح خصوصيتها وشكل تمفصلها في التاريخ!؟

سأصارح: سال دم فلسطيني كثير، ولا يزال مستمراً في النزيف.. وما زالت قوافل الشهداء تسير خبباً في اتجاه المدافن، إلا أنّ المقاومة في تجلياتها المختلفة، ما زالت بدورها ترسم جملة من الحقائق وتعرّي كماً هائلاً من الأوهام، لتكشف بذلك عن طبيعة عدوّ نازيّ يمارس كل أشكال القهر والعنصرية والظلم والطغيان، وهذا يعني أنّها نجحت في إعادة الأمور إلى أصولها، وأظهرت القوّة في الضعف لدى الفلسطيني، والضعف وعدم القدرة على اجتثاث الجذور لدى المحتل، وصاغت بالتالي معادلة ما يسمّى بـ”توازن الرّعب” رغم الاختلال السافر في توازن القوى والإمكانات المادية والعسكرية والسياسية.

فماذا يعني هذا؟

هذا يعني أنّ “إسرائيل” التي تستمدّ قوّتها من أمريكا لا تروم الوصول إلى تسوية، بقدر ما تسعى إلى فرض واقع، وهذا الأمر الواقع يتماهى مع المستجدات الدولية تبعاً لموازين القوى وخصوصاً في ظل راهن عربي يشهد مزيداً من التشرذم والانقسام، الأمر الذي يمنح “إسرائيل” مكاسب إضافية، وعليه فإنّ أيّ حل لا يعدو كونه صفقة إسرائيلية مربحة لترويج -البضاعة الفاسدة- مجدداً وتحت نفس الشعار: العودة إلى طاولة المفاوضات-أو- العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل: 28-09-2000، وذلك دون تغيير إيجابي على أرض الواقع. إلا أنّ الصمود الفلسطيني ما فتئ يتذاكى ويزداد إصراراً على استرداد الحقوق السليبة والمستلبة، ناسفاً في ذات الآن الوعود الزائفة والمعرّضة أبداً للتناقص حتى الاضمحلال ورافضاً واقع الاحتلال عبر صيغة “دولة” هي الحكم الذاتي “مستأنفاً” دون تغيير جوهري في الواقع.. لذا لا عجب أن يعود الفلسطينيون إلى معادلة الاحتلال والمقاومة محاولين دوماً إعادة رسم العلاقة ثم الأدوار بين ما هو قطري وبين ما هو قومي، ومن له حق التصرّف ومن يحقّ له الاعتراض، متجاوزين بجسارة كل محاولات الاختزال والتدجين الرامية إلى تحويل-فلسطين- إلى مجرّد جملة معترضة في كتاب العرب الامتثالي.

أقول هذا لأؤكّد على أنّ القضية الفلسطينية برمتها غير قابلة للاختزال في ثنائية أن تكون دولة فلسطينية أو لا تكون، وعلى أي مساحة من أرض فلسطين قد تقام، بل وفق أي شروط وحقوق! ذلك أنّ المقاومة قد رسّخت جملة من الحقائق وقشعت سحباً من الأوهام وجعلت من -فلسطين- رمزاً للصراع العربي الصهيوني وقضية مركزية للأمة العربية، فليس ما يجري فيها خلافاً على الحدود ولا نزاعاً فلسطينياً “إسرائيلياً” على هذه النسبة أو تلك من مساحات الأرض، بل إنّه صراع بين مشروعين: الأوّل إنسانيّ يمثّل في اللحظة الراهنة الضحية الحقيقية للاستعمار والعنصرية والإرهاب، والثاني عدواني نازي يعلن بحماقة أنّ الأرض لم تعد تتسع لاثنين، وبالتالي على الفلسطينيين أن يغادروا وأن يجدوا لهم مكاناً آخر!، أي أنّ إمكانية العيش المشترك لم تعد واردة وهذا ما يفسّر المبالغة في استعمال القوّة، واللجوء إلى إرهاب الدولة المنظّم، سواء في اقتطاف رؤوس المقاومة أو هدم البيوت أو تضييق الخناق على -غزة- وأهلها..!!

وإذن كان لا بدّ من إدراك الحقيقة دون زيف أو خداع باعتبار أنّ المقاومة الفلسطينية في اشراقاتها الخلاّقة، قد وضعت كلاّ من الجلاّد والضحية في موقعهما الملائم على ضفتي الصراع وأسّست باستبسال لترجمة واضحة للوعي المقيم، وعي العربي الفلسطيني بهويته ومعناه، وحدوده ووجوده الممتد، مقابل وعي اليهودي بوجود طارئ على جغرافيا يفتعل صلة وهمية وخرافية بها.. لذا لم يعد الرهان على غير وعينا، إدراكنا، فهمنا، ممكناً، كما لم يعد في وسع أي شيء من هذا: نوايا.. جهود. .مبعوث.. مبادرة.. إلخ أن يخفي عنّا ما هو جوهري في عمليات الالتفاف على الحقوق المشروعة لقضيتنا القومية والتي بدأت تجتذب كتلاً من التفاعلات العميقة محلياً ودولياً، شعبياً ورسمياً، وبدأت كذلك تطرح مشكلة اللعب في المشروعية الدولية.. مشكلة ازدراء حرمة مبدأ الحقوق ذاته.. مما يعني بوضوح تام أنّ التسويات والمبادرات والمؤسسات وتطلعات المجتمع الدولي كلّها في شبهة.

أردت القول: إذا كان المحرّك الأساسي للمقاومة هو رحيل الاحتلال ومستوطنيه، وهو كذلك، وإذا كان انقشاع الأوهام التي راهنت على الوصول إلى سلام عادل وفق الآليات والأسس التي صاغها اتفاق -أوسلو-هو وقود إضافي لهذه المقاومة، فإنّ وصولها إلى ضفة التحرير وتحقيق هدفها الوطني هو رهاننا التاريخي الحاسم، خصوصاً بعد أن ثبت عجز جنرالات الحرب في تل أبيب عن إسكاتها و-تدجينها- من خلال دموية الاجتياحات والاغتيالات وإطلاق القوّة المجنونة من عقالها، الأمر الذي جعل كذلك محاولات الالتفاف السياسي عليها تبوء بالفشل لأنّها تؤسس للعودة إلى الوراء بينما تتأسّس المقاومة الفلسطينية الباسلة على قائمة أهداف محددة، لا يجوز القبول بأقل منها..

والخلاصة؟

هي أنّ المقاومة متواصلة ولا سبيل لرمي سلاحها حتى تحقيق النّصر المبين، وهذا ما يؤمن به كل من يمتلك رؤية حقيقية ويرفض العماء المعمم، كما أنّ صمودها ليس أمراً مفاجئاً ولا استمرارها مدهشاً إلا لأولئك الذين يعتقدون أنّه بإمكانهم مواصلة خداع الواقع وتسويق الوهم بعد أن استكانوا لتزوير التاريخ..

لذا، وعلى عكس ما يشاع، فإنّها لا تعاني انسداد الأفق، بل إنّ من يعاني انسداد الآفاق حقّاً هو الكيان الصهيوني، أقول هذا في الوقت الذي أشاح فيه العرب بوجوههم عن القضية الفلسطينية ليصغوا بانتباه للصوت القادم من واشنطن.!

بقي أن أقول إنّ المقاومة الفلسطينية تسير بخطى حثيثة صوب النصر المحتوم ولن تتوقف على المسير خصوصاً إيران في قلب العاصفة..

إيران اليوم ليست إيران ما قبل الانتخابات بعد أن خلخلت حسابات المنطق وجسّدت هزّة عنيفة مخلخلة للوعي المخدّر والمستَلَب، وأصبحت حدثاً ممهوراً بالدّم وتحوّلت تبعاً لكل التداعيات إلى مقاومة شعبية استشهادية، وشكّلت بالتالي حرب استنزاف قدر العدوّ فيها هو الهزيمة والاندحار لذا لا عجب أن يمارس هذا العدوّ كل أشكال الإرهاب باستخدام الدبابات والطائرات اف16.. وكل أدوات صناعة الموت، ولا عجب كذلك أن يواجه الفلسطينيون كل هذا الزخم من الدمار بصمود استثنائي وبقدرة مذهلة على اجتراح أشكال جديدة للمقاومة مكنتهم من ضرب العدوّ فيما يعتقد أنه مناطق آمنة، وأربكت بالتالي خط دفاعه الأوّل.. وهذا يعني أوّلاً وأخيراً أنّ الواقعة الاستشهادية لا تكون أساساً إلاّ إجابة عن سؤال الحقوق والشرعية.. ممارسة في صياغة السؤال المطروح مما يجعلها- ثورة في الإنسانية، معترفاً بنتائجها في “الجهاز التقني” لإستراتيجيات المجتمعات الباحثة عن المعادل البديل لفقدان الحقوق والقانون والسيادة.

* عضو بإتحاد الكتاب التونسيين

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات