الثلاثاء 16/أبريل/2024

تساؤلات إسرائيلية

تساؤلات إسرائيلية

تعيش نخب الحالة الفكرية “الإسرائيلية” الصهيونية نقاشًا محتدمًا يتعلق بالمستقبل وآفاق التحولات الجارية في البيئة الإقليمية وفي العالم ككل. فقد أمسى الحديث عن مستقبل “كيان إسرائيل” عنوانًا حاضرًا بشكل استثنائي لأول مرة وسط كل مظاهر القوة والبطش والغطرسة التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني وعموم المنطقة. حيث بات الكثير من اليهود يعتقدون أن مستقبل إسرائيل ومكانها في الشرق الأوسط أصبح على محك التساؤلاتً كما لم يكن لعدة أجيال، ولسان حالهم يقول: هل ستبقى الدولة اليهودية على قيد الحياة؟ وبأي ثمن؟ وبأي هوية؟ وهل يمكنها أبدا أن تعرف السلام ؟.
ومن الطبيعي القول بأن مرد هذا الانتقال في منحى التفكير المستقبلي عند النخب “الإسرائيلية” الصهيونية يعود لجملة من الأسباب المنطقية التي فرضت نفسها على أرض الواقع. فالثقة بمستقبل “إسرائيل” تتراجع الآن في صفوف قطاعات مهمة من الأنتلجنسيا والنخب “الإسرائيلية”، بالرغم من التناقض الظاهري بين قوة آلة “إسرائيل” العسكرية والمخاوف على مستقبلها، ففي حين أن الآلة العسكرية “الإسرائيلية” نفسها أقوى من أي وقت مضى، فان ديناميات التحولات الجارية في المنطقة لجهة ما يجري في بلداننا من حراكات وهبات وثورات شعبية، ونهوض الشعب الفلسطيني وثباته فوق أرضه جعل من فكرة “إسرائيل” ومستقبلها عرضة للسقوط أكثر من أي وقت مضى منذ خمسينيات من القرن الماضي.
وعليه ليس غريبًات أن يقول واحد من غلاة الصهاينة، هو الجنرال شاؤول موفاز القائد الجديد لحزب كاديما الصهيوني، ورئيس الأركان “الإسرائيلي” أثناء عملية السور الواقي التي جرت ضد الفلسطينيين أثناء حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات “إن الحرب التي تخوضها إسرائيل اليوم أهم لمستقبلها من حرب الاستقلال عام 1948” والذي يعنيه الجنرال موفاز بهذه الحرب ما يجري من تصادم بين المشروع الوطني التحرري العادل للشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني.
كما ولا يخفي الجنرال شاؤول موفاز قوله بأن الحرب ضد الفلسطينيين تعتبر حرب تأمين ركائز “إسرائيل” التي تتعرض كما قال ولأول مرة منذ تأسيسها للمخاطر. فالدولة التي قامت على العسكرة من أول يوم في حياتها، أصبحت تعاني من ظواهر مختلفة منها على سبيل المثال تزايد حالات الهروب من الخدمة العسكرية، وهي ظاهرة تشهد تصاعدًا في “إسرائيل” بمعدلات غير مسبوقة في مجتمع قام على العسكرة، حتى إن رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي” السابق الجنرال جابي اشكنازي قال في خطاب ألقاه في مقر سلاح الجو “الإسرائيلي” في هرتزليا “إن ظاهرة التهرب من الخدمة العسكرية تنهش المجتمع والجيش في إسرائيل”.
وعامًا بعد عام تتصاعد معدلات القلق داخل المجتمع الإسرائيلي فهذا الجنرال (موشيه يعلون) الذي كان يشغل منصب رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، وقائدًا أمنيًّا بارزًا، والذي امتدح قدرة ما أسماه “الشعب الإسرائيلي” على الصمود في الصراع الدائر مع الفلسطينيين، اضطر في تصريحات علنية إلى الاعتراف بأن قدرة المجتمع “الإسرائيلي” على الصمود محدودة للغاية، بل وأقر بصواب نظرية المقارنة بين خيوط العنكبوت ودولة “إسرائيل”.
ان الاستنتاج الأساسي يقودنا للقول بأن مستقبل الكيان الصهيوني في المنطقة بات موضع تساؤل على المدايات البعيدة نسبيًّا، في بيئة عالمية متغيرة تشهد كل يوم إرهاصات توالد عالم متعدد الأقطاب، وانحسار النفوذ الأميركي والغربي عن الشرق الأوسط، وفي لحظات يموج بها الشارع العربي وتعلو بها أصوات الناس التي كانت في الماضي نسيًا منسيًّا من قبل حكامها… ؟
إن “دولة إسرائيل” الصهيونية، وبحكم نشأتها الطارئة والملتبسة، ككيان استعماري/ “استيطاني” أوجدها الغرب امتدادا لمصالحه وسياساته في المنطقة كـ “دولة وظيفية”، وبحكم تكوينها الاثني/القومي، تجد نفسها اليوم أمام تحولات داخلية عميقة من حين لآخر، تكتسي كل يوم أثوابًا جديدة من الحراكات التي تبشر بانحسار المشروع الصهيوني نهاية المطاف، وانسداد الآفاق أمام المشروع الصهيوني الذي بشر به وعمل من أجله تيودور هرتزل وفلاديمير جابتونسكي وديفيد بن جوريون. ف”إسرائيل” المنتعشة بروح الغطرسة وهي في ذروة قوتها وتجبرها وتفوقها وقوتها العسكرية والاقتصادية واحتكارها السلاح النووي، لم تكن قلقة على مستقبلها ومكانتها بقدر ما هي عليه اليوم. حيث تعيش الأوساط الصهيونية ونخبتها الحاكمة وخاصة المؤسسة العسكرية حالة من الأرق والخوف من المستقبل الآتي.
وتتصاعد حالة الأرق والخوف مع المتغيرات التي تقع كل يوم بالنسبة لتراجع ميزان الهجرة الاستيطانية التوسعية إلى فلسطين عما كانت عليه بالنسبة لسنوات مادية، ومع تراجع شعور الانتماء لدى اليهود الجدد الذين أتوا إلى فلسطين في موجات الهجرة الأخيرة من دول الاتحاد السوفييتي السابق تنامي ظاهرة التباينات الطبقية والإثنية بينهم، إضافة لتراجع الانشداد العاطفي من قبل يهود العالم تجاه “إسرائيل”، فضلاً عن تحولات الميزان الديمغرافي على ارض فلسطين التاريخية مسنودًا بتواصل الكفاح الوطني الفلسطيني.
من هذا المنطلق فإن الزعيم الصهيوني التاريخي ناحوم جولدمان لم تفته مقولة بن جوريون وهو يكتب مقالته التي نشرها في مجلة “الفورين أفيرز” سنة 1975، إذ نبه جولدمان إلى أنه “لا يوجد لإسرائيل مستقبل على المدى الطويل دون تسوية سلمية مع العرب”، واعترف بأن “مطالبة الصهاينة بدولة يهودية، تتعارض بشكل تام مع إمكانية البقاء على المدى البعيد”. كما نستذكر رفض ألبرت اينشتاين عالم الفيزياء اليهودي الأوروبي وصاحب النظرية النسبية عرض دافيد بن جوريون له بأن يكون أول رئيس لإسرائيل حين إعلانها العام 1948 واصفًا هذه الدولة بأنها ستقود يهود العالم إلى الكارثة.
كاتب فلسطيني/دمشق/ عضو اتحاد الكتاب العرب
صحيفة الوطن العمانية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات