الجمعة 26/أبريل/2024

نور الدين بركة.. رجل من قلب المدينة

ساري عرابي

في القرآن رجال يلاحقون الواجب، ينتزعون أنفسهم من الدعة في أقاصي المدينة ويسعون إلى قلبها، لا إلى السوق، وإنما إلى المواجهة، أو النصيحة، كذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة إلى موسى يسعى، يكشف له مؤامرة فرعون وإرادة القتل المخبأة فيها. ويمكن لنا أن نسأل ما الذي حمل هذا الرجل على المغامرة بحياته بسعيه لإحباط مؤامرة طاغية من وزن فرعون؟! وكذلك الرجل الذي نصح قومه حيًّا وميتًا وقد جاء من أقصى المدينة يسعى، منحازًا للمرسلين وناصحًا قومه، في مهمة قد تبدو بالميزان القريب خاسرة، إنّه رجل، من أقصى المدينة، ويسعى، يكلّف نفسه بالمسؤولية، ويسعى إليها حيثما كانت، مهما كانت نتائجها القريبة.

هذا المثل لم ينقطع في تاريخنا، فبانقطاعه يفسد كلّ شيء، وتفقد الحياة معناها تمامًا.. بكلمة أخرى هؤلاء بعض تجلّيات العناية الإلهية بالبشر، وهم واحد من أضلاع مثلّث؛ يكوّنه: الخطاب الإلهي العميق المركوز في فطرة الإنسان، وموعظة الله البليغة المنزّلة على قلوب الرسل، والمثل الآدمي الذي يضربه الله للناس موعظة، ولما كان الأمر كذلك، قال الله تعالى: “وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ”، فالمثل الآدمي هنا استدعاء للخطاب المركوز، وتعزيز للموعظة المنزّلة على قلوب الرسل، وضرب من استمرار العناية الإلهية حتى وإن خُتمت النبوّة، فهو حقيق إذن أن يكون اتخاذًا، كما أن النبوّة اصطفاءٌ، فإنما هي موعظة الله وعنايته بخلقه.

نور الدين بركة.. صورة أخرى لهذا المثل، لم يأتِ من أقصى المدينة إلى قلبها، ولكنّه رابط في قلب المدينة وقد بدا هذا القلب مختنقًا بالحصار وشظف العيش وضيق الحياة، ولكن ما الذي يمنح القلب الحياة سوى نور الدين بركة وأمثاله؟!

فإذا ضلّ الناس، ظلّ هذا المثل دليلاً، وإذا اختلّ اجتماعهم ظلّ هذا المثل ميزانًا، وإذا ارتكست النفس واستحوذ عليها الشيطان ظلّ هذا المثل نورًا، ولمّا أراد الله جلّ وعلا أن يجعل لنوره مثلاً قريبًا من الناس قال: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (*) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ”، وبهذا تُدفع أوهام الضلال التي تنادي على الناس بالفوز الزائف، وتُكشف الظلمات المتراكمة التي تغمر البصائر العمياء.

نور الدين بركة.. صورة أخرى لهذا المثل، لم يأتِ من أقصى المدينة إلى قلبها، ولكنّه رابط في قلب المدينة وقد بدا هذا القلب مختنقًا بالحصار وشظف العيش وضيق الحياة، ولكن ما الذي يمنح القلب الحياة سوى نور الدين بركة وأمثاله؟!

نور الدين بركة مُتعلّم القرآن ومعلّمه، وقد جمع إلى هذه الخيرية، ذروة السنام، الجهاد في سبيل الله، كما جمع القراءات العشر في قلبه، وجمع ذلك كلّه في دراسة الفقه في الجامعة، ناصبًا في نفسه الجهاد مرتكزًا لعمله وعلمه كلّه، فكتب أطروحة الماجستير حول “الإهمال في العمل الجهادي”، فكان قارئًا ومجاهدًا وفقيهًا ودارسًا الدراسة الأكاديمية، ومتنبهًا ومتيقظًا في عمله الجهادي، حتى جعل الله على يديه كرامة للفلسطينيين كلّهم، ولأهل غزّة على وجه الخصوص، حينما أحبط بيقظته عملية أمنية خاصة للاحتلال كانت تستهدف قلب المدينة.

رجل في مثل مؤهلاته، حفظًا وعلمًا وتعلمًا وفقهًا وقراءة وإقراءًا ودراسة، يملك ما يمكنه أن يبحث لنفسه عن فرص فسيحة في البلاد الواسعة خارج ضيق الحصار، وهو يملك إلى جانب ذلك ألف عذر، ولكنه اختار أن يجمع الحسنيين؛ نفير المرابط، والفقه، فكيف إذا كان مفقّهًا للمجاهدين ومقاتلاً في صفوفهم؟! ولو أنّه لم يختر ذلك، لما كان (نور الدين بركة).

فإذا عُلم ذلك، وعلم إلى جانبه زهده وتعفّفه عن مال الجهاد، وقد اختار أن ينام في سيارته بعد قصف بيته في الحرب، ولا يطالب قيادته بدل استئجار شقة، مع أن ذلك من حقّه، ثم استحضر المرء قول الله تعالى: “بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ”.. عَرَفَ معنى العلم حقًّا، وكيف أن العالم يصير آية في نفسه لا يجحدها إلا الظالمون، ثم إذا استحضر قوله تعالى: “وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ”، وقد قيل في معنى “ربّيون”: الألوف والجماعات الكثيرة، وقيل: الفقهاء والعلماء، وقيل: علماء صبروا، وقيل: أتقياء صبروا، وقيل: أتباع الأنبياء.. عَرف أن ذلك كلّه قد صدق -كما نحسب- في نور الدين بركة، فهو في وزن ألوف وجماعات كثيرة، فقيه عامل عالم صابر، من صفّ المثل التي هي ميراث الأنبياء وأصحابهم، واستمرار لمواعظ الربّ التي تنزّلت عليهم، وتتجلّى اليوم فيه وفي أمثاله.

رجل في مثل مؤهلاته، حفظًا وعلمًا وتعلمًا وفقهًا وقراءة وإقراءً ودراسة، يملك ما يمكنه أن يبحث لنفسه عن فرص فسيحة في البلاد الواسعة خارج ضيق الحصار، وهو يملك إلى جانب ذلك ألف عذر، ولكنه اختار أن يجمع الحسنيين؛ نفير المرابط، والفقه، فكيف إذا كان مفقّهًا للمجاهدين ومقاتلاً في صفوفهم؟! ولو أنّه لم يختر ذلك، لما كان (نور الدين بركة).

إنّها سيرة الله في عبّاده العارفين، وفي علمائه المرابطين، الساعين من قلوب المدن إلى أقاصي الثغور، والراسخين في قلوب المدن إذ صارت ثغورًا، ولعلّ في مثل نور الدين بركة ما هو أعظم مما قرأناه في سير العلماء العباد المرابطين، فخير الله لا ينقطع عن البشرية، وعن هذه البلاد، وهو أرحم بنا من أن يذرنا وهذه الوحشة التي تفترس قلوبنا، لولا أنّه يمطر عليها بما يحييها من جديد.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات